عربة ثقافة

AbuMajeed

منذ مطلع العام 2006 قبل أو بعد بقليل، فلم أعد أذكر صراحة، أستوقفني شخص أبي مجيد كحالة اجتماعية استثنائية ونادرة، فقمت بكتابة هذا المقال بهدف نشره في مواقع التواصل. وكنت قد قررت قبل ذلك أن أعرضه على أبي مجيد وهذا ما حدث فعلا، إذ قرأته له حرفيا، وكان رده كالتالي: ”لو لم تكن من أقاربي،لشجعتك على نشرة كمقال أدبي، ولكن بهذا الوضع لا أستطيع تقديم النصح لك”.
الحقيقة أنني ترددت في نشره حينها ونسيت الأمر. ولكن بعد هذا الحدث المثير للحزن، قررت أن يكون هذا المقال هو رثائي وعزائي للعم ”أبو مجيد”.وهنا أنقله لكم حرفيا كما كتبته حينها، أي ما يزيد عن الثلاث عشرة عاما، دون زيادة منّي أو نقصان.

عربة الثقافة

بالرغم من أن موضوعي سيكون مفاجئاً للجمهور الكريم من ناحيتين,وهما أن الجمهور الكريم لم يعتد على قراءة اسمي من ضمن الكتاب ولا الروائيين ولا حتى المعقبين ,رغم أنني أقرا كل ما يكتب, وبهذا فهو غير معتاد على أسلوبي في السرد, ومن ناحية أخرى قد تكون غرابة الموضوع الذي سوف أكتب عنه .
على كل حال ,ليس هذا هو المهم بل المهم بالنسبة لي هو أن يصل ما أنوي أن أنقله من صميمي إلى صميم القراء عله يحرك ساكنا في مجتمع عاش منذ عهود وهو يتيم الأب والأم بعيدا عن ضوضاء التجارب الحياتية ولم تسمح له جغرافية الأرض أن يرتاح ولكنه رغم كل هذا استطاع أن يصنع لنفسه هوية وتاريخا خاصين .
مرة أخرى ليس هذا هو موضوعي وعذرا على طول المقدمة . أما موضوعي اليوم سيتناول فكرة صغيرة عن محاولة تغيير كبير. فمنذ عقود ونحن نرى شخصا متواضعا هادئا يرتدي زيا تقليديا لم يغيره أبدا وهو يتجول مع مطلع كل أسبوع لكي يوزع علينا حفنة من الثقافة. فهل توقفنا مرة لنسأل عما يدور في خلد هذا الشخص ؟ ألم يسألنا مرة ابننا الفضولي من هذا ولم نجب أو أجبنا باختصار ؟ إذا كان الجواب لا ,فلا تستغربوا كثيراً فأنا حتى الأمس القريب لم أسأل نفسي أيضا ذات السؤال, ولم أتوقف لحظة لأتأمله أو أفكر به رغم إنني منذ سنين وأنا أحاول أن أجرع من تلك الحفنة .
قد يسال الكثير لما كل هذا الانتظار؟ فأنا أقول أن ما دعاني أمس أن أفكر بالأمر مليا هو عندما استوقفني العم “أبو مجيد” كي يسألني فيما أذا كانت المجلة تصلني حيث يودعها لي أم لا, وكان يجر المجلات كلها في عربة بناء قديمة، لم تزل آثار الأسمنت الصلب تملأها من الأعلى والأسفل, وهذا ما لفت نظري حقيقة إذ سألت نفسي عندها : ” ألهذا الحد أصبحت الأوراق ثقيلة عليه، وما زال مصمما على مواصلة الدرب ؟
في الحقيقة ,للعم أبي مجيد مواقف كبيرة وكثيرة أمام المجتمع ومن آخر آثارها ,شئنا أم أبينا, وبحق أقول, هو دار الصداقة الجولاني الروسي الذي تم افتتاحه منذ فترة وجيزة وإن لم يكن هو المبادر لتلك الخطوة, فلم ولن ننسى أنه هو أول من فتح الدرب أمام الطلاب ,وعلى مدى سنوات عديدة, للالتحاق بجامعات الإتحاد السوفيتي, وما هذه الخطوة سوى تتويجا واستمرارا لتلك. ومن يستطع أن ينكر هذا؟ وهذا ليس الموقف الوحيد له الذي ترك آثارا إيجابية على مدى عقود. فله مواقف أكبر وأكثر تركيبا لا أنوي أفاقتها من غفوتها الآن ولا التحدث بها كونها ليست مجرى حديثي هنا. ولكن السؤال هنا: ما هو الدافع من وراء كل هذا الجهد المضني لرجل قارب العقد السبعين من العمر ؟ أذا كانت لقمة العيش فالجواب مرفوض كونه لا مرابح تذكر من جراء ذلك, وفيما إذا افترضنا الشهرة, فلا يجوز لعدة أسباب : كون هذا الرجل عرف على صعيد المجتمع قبل توزيعه للمجلات والجرائد بكثير وكون هذا العمل ليس هو الطريق لذلك .ومن ناحية أخرى فأن هذا العمل في مجتمعات العالم الثالث يتم عن طريق صبية لا تجيد القراءة أصلا, أما في المجتمعات المتحضرة تُشرى من المتاجر مع الحاجيات الأساسية كالخبز والحليب. إذاً ما نسمي هذه الظاهرة الفريدة عندنا ؟
هنا أسمحوا لي إدخال تجربتي الخاصة في التحليل: فقبل ثلاث سنوات كنت ملتحقا في برنامج تعليم جامعي ولم استطع إيفاء العم أبو مجيد المبلغ الرمزي الذي يتقاضاه من اشتراك الجريدة وعندما استوقفني صدفة في الطريق إلى مسعدة شرحت له الوضع فقال “أوصلني بدربك إلى مسعدة واعتبر هذه التوصيلة مقابل المبلغ”. وجاءت الأمور صدفة أنه بعد عام لم أتواجد كثيرا وكنت أسافر كثيرا . ومر عام آخر ولم يتوقف عن إيداع الجريدة في وقتها المحدد وكان أيضا عندها يحرص على أن تصلني. وفي العام الثالث قررت أن أدفع لسنتين متواصلتين كون أموري التعليمية والمادية استقرت ولم أعد أسافر كما كنت وهذا ما حدث. ولكن بعد ذلك الوقت بقليل, لسبب ما, توقفت عن الذهاب حيث اعتاد أن يدع لي الجريدة. فبعدها بفترة وجيزة رن هاتفي من رقم غريب وإذ به العم أبو مجيد يعاتبني ويسألني لما لم أأخذ الجريدة ويسألني لو كان عليه تغيير مكانها ليتسنى لي تناولها في وقتها المحدد .
“شو القصة معك يا عم بو مجيد؟ لا نْ دفعنا منخلص ولا نْ ما دفعنا ؟” ولكن في الحقيقة هذا هو الواقع . ما يُخّلص العم أبو مجيد ليس أن تدفع أم لا تدفع, بل هو أن تقرأ. وأن يُدخل ثقافة القراءة والاطلاع على مجتمعنا بأي طريقة كانت ومن أي درب ممكن وبأي أسلوب متاح . ولم يعد لدي أي شك في أن ليس لديه أيّ هدف آخر سوى هذا الهدف, ولا غاية سوى تلك الغاية….والله من وراء القصد.

تعليقات

  1. وانت من يوفيك حقك ايها الانسان الرائع.دائما في كتاباتك تسترجع ما نسيناه بفضل مزاحم الحياه.رحم الله صاحب العربه وادامك الله انت وقلمك الحر الوفي.

التعليقات مغلقة.

+ -
.