أغاني الحب والدببة الحمراء… مُتع «غير مطابقة للمواصفات»

تُذكّر مشاهد الدببة الحمراء المتزاحمة على واجهات المحال التجارية، هذه الأيام «احتفالاً» بيوم الحب، بالأغاني الشعبية العربية التي تتغنّى بالحب أيضاً. كلها متبذلة، لا ابتكار فيها ولا تجديد. كلها تتغنّى بالعشق والهيام والولع، لكن لشدّة ابتذالها تُشعر بالاشمئزاز والغثيان.

منذ اكتسحت البضاعة الصينية أسواقنا، والدببة الحمراء في كل أشكالها وألوانها وقلة ذوقها، تعاود التكاثر في يوم الحب، كالجراد. لا ندري من الذي أقحم هذا الدب «الغلبان» في متاهة الحب و«لعاليعه» كما يقال، ولا لماذا اختار ذاك المسوّق الدب تحديداً ليكون عربون محبة؟ فهذه الشخصية تجذب الأطفال عادة في القصص والرسوم المتحركة مثل سلسلة «الدب بادينغتون». لكن، من هي الفئة المستهدفة لشراء كل هذه الدببة التي لم نلحظ أنها حملت منذ زمن ابتكاراً جديداً في شكلها أو علبها، على الأرجح أنها لا تحمل معها إلا همّ تكديس الغبار في غرف نوم العشاق الذين سيتركونها وحيدة عندما يذبل الحب…

وهكذا هي فعلاً الأغاني الشعبية التي يؤديها الفنانون العرب. كلها تصف الحب وفنونه والفراق ولوعاته والخيانة وأبعادها، بالطريقة نفسها «منذ أكثر من عشر سنوات». وهذه الجملة التي تكتب عادة على إخراجات القيد اللبنانية، قد نطالب بتعديلها لتكون «منذ أكثر من 20 سنة» عندما نتحدّث عن قيد أغاني وائل كفوري وأليسا ونانسي عجرم ونجوى كرم وفارس كرم وعاصي الحلاني، إضافة الى عمرو دياب وشيرين وأصالة وكاظم الساهر، وغيرهم كثر.

منذ أن بدأ هؤلاء كار الغناء، وهم يغنون للحب الذي للأسف ينكفئ هو الآخر أمام مدّ الإرهاب، إلى درجة قد يأتي ذاك الدب الأحمر السنة المقبلة محمّلاً بصاروخ أو مقطوع الرأس… وما زال فنانونا يغنون للحب. وبدل أن تتطوّر أغانيهم وكلماتها وصورها وألحانها، نراها مسجونة في المكان نفسه. لا بل، كانت أغاني نجوى كرم مثلاً أفضل بكثير من أغانيها اليوم. وكذلك عمرو دياب الذي وصل إلى العالمية، ووائل كفوري ومواويله، ونانسي عجرم… كانوا جميعاً يبحثون عن صور مبتكرة في أغانيهم، في السنوات الأولى من ظهورهم، لتكريس أنفسهم نجوماً. ولكن، بعد ذلك، بدأت أغانيهم تتكاثر كتوائم، كلها تتشابه في اللحن والكلمة والفكرة، وإن تنوع الملحنون والشعراء.

يبدو أن نجومنا الذين باتوا اليوم جميعاً منظّرين ويعطون الملاحظات للمواهب الجديدة التي هي أيضاً تتكاثر وتغزو «واجهات» الشاشات العربية كالدببة الحمراء، نسوا أن يراجِعوا حساباتهم ويوجهوا النصائح والملاحظات لأنفسهم قبل غيرهم. وقد نسوا أيضاً أن النجومية كي تستمر، والجمهور كي تتسع مروحته ويبقى وفياً لنجمه، تتطلب مزيداً من بذل الجهود سنة بعد سنة. وهذه الجهود لا تحصر في عمليات التجميل وهندسة الشكل الخارجي وتغيير «اللوك» وانتقاء أجمل الفساتين وأفضل الأكسسوارات، والتنافس على الأناقة وجمال البشرة، بل تتعداها إلى الجهود الثقافية على صُعُد الموسيقى واللحن والكلمة. فلا يجوز أن يدخل المرء مضماراً ويخرج منه كما لو أنه ذهب إلى مطعم أكل وشرب فيه وتسامر مع أصدقائه، ثم ذهب إلى النوم ولم يتغيّر شيء.

وهنا في حالات فنانينا، تتغير وجوههم وخِزاناتهم وحساباتهم البنكية، لكن مع كل ذلك تبقى مواضيع أغانيهم نفسها، وألحانها نفسها، وإن تبدّلت هذه الألحان نوعاً ما. قد تقول نجوى كرم أنها حققت ثورة في «دوم تك دوم»، لكن هذه الأغنية تحديداً أنزلت نجوى كرم عن عرش «شمس الأغنية اللبنانية». فما الجديد في تقليد صوت الطبلة؟ أي طفل عندما تطلب منه أن يقلد هذا الصوت سيقلّده، ويتفاعل معه. وقد يقول آخر، ليس صحيحاً أنا غنيت للجيش وللبنان ولمصر إلى آخره. لكن، حتى الأغاني الوطنية، أتت أيضاً مبتذلة كأنك تقول ألبست ذاك الدب الأحمر بذلة عسكرية!

لا ندري إن راجع كل من هؤلاء نفسه وتاريخه وإنتاجاته، عندما توفيت صباح التي لا ننسى أنها مغنية شعبية. هل لاحظ هؤلاء، أن الناس يحفظون أغاني صباح، وحتى صغار السن، أكثر من أغاني اليوم؟ وهل لاحظوا مدى التطوّر في صوت شحرورة الوادي وأغانيها والمواضيع التي تناولتها على مدى أكثر من 50 سنة؟

هل فكّر أحدهم بالغناء للحب من زاوية البساطة وعلم النفس أو لوم الذات؟ صباح لم تكن فيلسوفة ولا هي متخرجة في السوربون، بل كانت تعي أهمية مهنتها وكيف عليها أن تحارب لتبقى نجمة حتى يوم مماتها، وليست نجمة فقط بل نجمة مميزة حتى بعد رحيلها. صباح اهتمت بشكلها وأناقتها أيضاً، وعانت مشكلات اجتماعية مميتة، لكنها مع كل ما مرت به صعدت نجوميتها من تحت إلى فوق، وتطوّرت هي نفسها على الصعيدين الشخصي والثقافي.

لننسَ صباح، ونأخذ فنانة من جيل مخضرم وهي سميرة سعيد التي مهما غابت عن الساحة تعود بمواضيع وأفكار وألحان جديدة ومبتكرة، بمعنى أنها تلعب في ساحة جديدة كلياً.

هذه الأمور ليست جديدة على الساحة الغنائية، وقد كتبنا أكثر من مرة في «الحياة» أن الأغنية تعاني مأزق الكلمة المغناة والألحان المبتكرة. لكن في المقابل، ترى مغنيات مثل ريما خشيش وتانيا صالح وغادة شبير على سبيل المثال لا الحصر، ينتقين أغنيات لا تشوبها شائبة. فعندما يغنين للحب، تشعر كأن حبّهن آتٍ من بلاد العجائب. ويغنون أيضاً للمدينة والحياة والحنين ولكل ما قد يخطر في بال إنسان. لكن هنا، وإن كانت المقارنة غير متساوية، نرى صوراً معاصرة في الأغنيات، ونرى أرضاً جديدة للصور الشعرية، ونغماً وتوزيعاً لا يمران على آذاننا كبوق مزعج. وهذا كلّه يكلّف جهداً وعلماً ودراية وإلماماً بما يمتهن الإنسان. فهؤلاء المغنيات درسن الموسيقى ويعلّمن أبجديتها، ويمرّن أصواتهن، ويمضين سنوات أحياناً لاختيار أغنية أو تسجيل ألبوم. ليس مهماً أن نصدر ألبوماً كل سنة أو كل ستة أشهر، وليس مهماً أن نحيي مئات الحفلات سنوياً، وأن تزيد حساباتنا المصرفية. وليس مهماً أن نشارك في برامج «اكتشاف» المواهب الغنائية التي لم تقدّم ولم تؤخّر هي أيضاً في مجال الفن الشعبي، بل على العكس فالمواهب التي تتوج في برامج التلفزيون سرعان ما تختفي أو تنزوي.

فليرأف بنا أصحاب النجوم ومعالي المغنين، وليرأفوا بأنفسهم كي يبقى من أغنياتهم ما يخبر عنهم وعن زمنهم. وليكن المستمع انتقائياً أيضاً، ولا يصوّت لنجمه المفضل من دون محاسبة ونقد، فليبحث هو أيضاً عن المبتكَر في الغناء ليطرب نفسه ويمتعها. فالمغنى ليس فرضاً مدرسياً، هو متعة قبل كل شيء. وهذه المتعة تفسد (أو تكون غير مطابقة وفق التعبير اللبناني الدارج هذه الأيام بعد حملة وزير الصحة وائل أبو فاعور على المأكولات الفاسدة غير المطابقة للمواصفات الصحية) إن غلب عليها التكرار والابتذال وعدم التجديد، كأي علاقة حب.

+ -
.