أول مدينة ظهر فيها فيروس “نقص المناعة” المسبب للإيدز

عندما ظهر فيروس نقص المناعة البشرية المكتسبة ومرض الإيدز الناجم عنه، بدا أن الاثنين جاءا تقريبا من العدم وعلى نحو مفاجئ ومن دون سابق إنذار. لكن بفضل علم الوراثة، بتنا نعلم المكان والزمان اللذين ظهر فيهما الفيروس للمرة الأولى وتسلل إلى بني البشر.

من السهولة فهم السبب الذي جعل مرض الإيدز يبدو غامضا ومخيفا للغاية، عندما واجهه الأطباء في الولايات المتحدة للمرة الأولى قبل 35 عاما.

فحينها، فوجئ الأطباء بحالة مرضية تسلب شبانا أصحاء نظامهم المناعي القوي، تاركة إياهم واهنين مكشوفين أمام أي مخاطر صحية. كما أن المرض بدا وأنه ظهر على نحو مفاجئ ومن دون سابق إنذار.

أما اليوم، فلدينا معلومات أكثر بكثير بشأن كيفية تحول فيروس نقص المناعة البشرية المكتسبة – وهو الفيروس المسبب لمرض الإيدز – إلى وباء عالمي، وكذلك بشأن السبب الذي أدى لحدوث ذلك.

بطبيعة الحال، لا عجب في أن العاملين في مجال تقديم الخدمات الجنسية لعبوا دورا في هذا الصدد، عن غير قصد منهم. لكن ثمة عوامل أخرى لا تقل أهمية عن ذلك الدور، مثل تنامي التبادل التجاري بين دول العالم، وانتهاء سيطرة الاستعمار على عدد من هذه الدول، فضلا عن موجات الإصلاح السياسي والاجتماعي التي شهدها القرن العشرين.

فبالطبع، لم يظهر فيروس نقص المناعة المكتسبة (إتش آي في) من العدم في واقع الأمر. فربما ظهر في بادئ الأمر في صورة فيروس يصيب القردة والسعادين في الجانب الغربي من منطقة وسط أفريقيا.

بعد ذلك، تخطى الفيروس عدة أنواع من الكائنات، ليصيب الإنسان في العديد من المناسبات، ربما لأن هناك من البشر من التهم لحوم طرائد مصابة به.

فعلى سبيل المثال، أصيب بعض الأشخاص بنسخة من فيروس “إتش آي في” ذات صلة وثيقة بتلك الموجودة لدى سعادين تُعرف باسم “منغبي أسخم”. لكن فيروس “إتش آي في”، الذي انتقل للبشر من السعادين، لم يتحول إلى مشكلة تهدد العالم.

فنحن – البشر – أقرب كثيرا إلى القردة، التي تضم كائنات مثل الغوريلا والشمبانزي، منّا إلى السعادين. لكن حتى عندما انتقل الفيروس من تلك الكائنات إلينا لم يتحول بالضرورة إلى مشكلة صحية واسعة النطاق.

وعادة ما ينتمي فيروس (إتش آي في)، الذي تشكل القردة منشأً له، إلى نمط من الفيروس يحمل اسم (إتش آي في-1). وتُعرف إحدى السلالات المنبثقة عن هذا النمط باسم “إتش آي في – 1 أو”، وغالبا ما يقتصر وجود الحالات البشرية المصابة بها في دول غرب أفريقيا.

في واقع الأمر، لم تنتشر سوى سلالة واحدة من فيروس نقص المناعة البشرية المكتسبة، على مساحات واسعة وفي بقاع شتى من العالم، بعدما انتقلت إلى البشر.

ويُطلق على هذه السلالة، التي ربما تكون قد أتت في الأساس من حيوانات الشمبانزي، اسم “إتش آي في – 1 إم”. وتشير الـ”إم” الملحقة بالاسم إلى كلمة major باللغة الإنجليزية، كنايةً عن الانتشار واسع النطاق لهذه السلالة.

وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 90 في المئة من حالات العدوى بفيروس “إتش آي في”، تتعلق بالإصابة بالسلالة “إم” تحديدا، وهو ما يثير سؤالا منطقيا مفاده: ما هي السمات التي تختص بها تلك السلالة دون سواها؟

وفي هذا الصدد، تضمنت دراسة نُشرت عام 2014 إجابة مفاجئة، وهي أنه من المحتمل ألا يكون هناك أي شيء خاص يكمن في تلك السلالة تحديدا.

فعلى عكس ما يمكن أن نتوقع، لا تتسم تلك السلالة من فيروس “إتش آي في” بأنها مُعديةً على نحو خاص، بل إنه يبدو أنها تستفيد ببساطة من الأحداث الجارية حولها التي تتيح لها فرصا سانحة للتفشي والانتشار.

ويقول نونو فاريا، الباحث بجامعة أكسفورد البريطانية: “إن ما دفع تلك السلالة للتفشي بسرعة يعود إلى الاعتبارات المتصلة بالبيئة المحيطة، لا العوامل المتعلقة بتطورها هي نفسها”.

وقد رسم فاريا وزملاؤه ما يمكن اعتباره “شجرة عائلة” لفيروس “إتش آي في”، وذلك من خلال فحص مصفوفات متنوعة من المُورِثات الخاصة به، تم جمعها من نحو 800 من المصابين بالفيروس في وسط أفريقيا.

المعروف أن الطفرات التي تشهدها المُورِثات تحدث بمعدلات ثابتة إلى حد ما، ولذا فبوسع الباحثين التعرف على أخر مرة كان فيها لاثنين من هذه المُورِثات سلف مشترك، وذلك عبر مقارنة المتواليات أو المصفوفات الخاصة بكل منهما وحساب الطفرات التي شهدتها هذه المصفوفات.

ويُستخدم هذا الأسلوب على نطاق واسع، وقد كان مفيدا على سبيل المثال، لإثبات أن السلف المشترك بيننا وبين حيوانات الشمبانزي عاش قبل سبعة ملايين عام على الأقل.

ويقول فاريا: ” تتطور الفيروسات (التي تندرج ضمن فئة فيروسات) الحمض النووي الريبوزي، مثل فيروس ‘إتش آي في’ أسرع بنحو مليون مرة من (تطور) الحمض النووي للإنسان”.

وهذا يعني أن عقارب “الساعة الجزيئية” (وهي تقنية تحليل وراثية لطفرات المُورِثات) لفيروس نقص المناعة المكتسبة تتحرك بوتيرة سريعة للغاية بحق.

ولفرط السرعة التي تتحرك بها عقارب هذه الساعة، اكتشف فاريا ورفاقه أن كل مُورِثات فيروس “إتش آي في” تتشاطر سلفا واحدا مشتركا، كان موجودا قبل ما لا يزيد عن مئة عام. وربما يكون تفشي السلالة “إم” من نمط “إتش آي في – 1” من الفيروس قد بدأ في عشرينيات القرن الماضي.

بعد التوصل إلى ذلك، مضى فريق البحث شوطا أكبر. فنظرا لأنهم على دراية بالأماكن التي جُمعت منها كل عينة من عينات فيروس (إتش آي في)، كان بوسعهم تحديد مدينة بعينها على أنها المنشأ الأصلي للانتشار الوبائي للفيروس، وهي كينشاسا، العاصمة الحالية لجمهورية الكونغو الديمقراطية.

وفي تلك المرحلة تحديدا، غير الباحثون أساليبهم البحثية. فقد لجأوا إلى دراسة السجلات التاريخية للتعرف على السبب الذي يمكن أن يجعل حالات إصابة بعدوى فيروسية في مدينة أفريقية خلال عشرينيات القرن الماضي، تُحدِثْ وباءً عالمياً في نهاية المطاف.

وسرعان ما اتضح لهم تسلسل للأحداث التي يُرجح أن تكون قد قادت لذلك.

ففي عشرينيات القرن العشرين، كانت الكونغو الديمقراطية مستعمرة بلجيكية، أما كينشاسا، والتي كانت تُعرف آنذاك باسم ليوبولدفيل، فكانت قد اتُخِذتْ للتو عاصمة للبلاد.

وقتذاك، صارت المدينة مقصدا جذابا للغاية للشبان صغار السن من الطبقة العاملة، ممن قدِموا إليها سعيا لمراكمة الثروات. كما أصبحت في الوقت نفسه وجهة جذابة للعاملات في مجال تقديم الخدمات الجنسية اللواتي كُنّ راغبات ربما أكثر من اللازم – في مساعدة هؤلاء الشبان على إنفاق ما يكسبونه من أموال. وهكذا انتشر الفيروس بسرعة بين السكان.

لكن الأمر لم يقتصر على حدود هذه المدينة. فقد اكتشف الباحثون أن عاصمة ما كان يُعرف بالكونغو البلجيكية في العقد الثالث من القرن العشرين، كانت واحدة من أفضل المدن الأفريقية اتصالا بما حولها عبر وسائل النقل والمواصلات، التي كانت متوافرة حينذاك.

ولذا بالاستفادة بأقصى قدر ممكن من شبكة السكك الحديدية شديدة التشعب، التي كان يستخدمها مئات الآلاف من الأشخاص سنويا، انتقل الفيروس إلى مدن تبعد عن ليوبولدفيل (كينشاسا الحالية) بما يصل إلى 900 ميل (نحو 1500 كيلومتر) في غضون 20 عاما فحسب.

ولذا كان كل شيء مُهيئاً لحدوث ارتفاع هائل في معدلات الإصابة بالفيروس خلال ستينيات القرن العشرين.

فضلا عن ذلك، حملت بداية ذاك العقد في طياتها تغيرا جديدا.

فقد نالت “الكونغو البلجيكية” استقلالها، وصارت بلدا جاذبا للعمالة القادمة من الدول الناطقة بالفرنسية في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك هاييتي.

وعندما عاد الهايتيون الشبان إلى وطنهم بعد ذلك بسنوات، جلبوا معهم إلى الجانب الغربي من المحيط الأطلسي نمطا ينتمي للسلالة “إم” من الفيروس، يُطلق عليه اسم “السلالة الفرعية بي”.

وفي سبعينيات القرن العشرين، وصل هذا النمط من الفيروس إلى الولايات المتحدة، وذلك في وقت كان يشهد إقبالا من الرجال مثلييّ الجنس على الإقامة في مدن تحتشد بسكان من مختلفي الجنسيات والأعراق مثل نيويورك وسان فرانسيسكو، وذلك بفعل موجة التحرر الجنسي التي ترافقت مع مشاعر الخوف من المثليين لدى البعض.

وهنا استفاد فيروس نقص المناعة البشرية المكتسبة مرة أخرى من وضع اجتماعي وسياسي سائد لكي ينتشر – وبسرعة – في الولايات المتحدة وأوروبا.

وفي هذا الشأن، يقول الباحث نونو فاريا: “ما من سبب للاعتقاد بأن السلالات الفرعية الأخرى لم تكن لتنتشر بذات السرعة التي انتشرت بها السلالة الفرعية ‘بي’ بالنظر إلى الظروف البيئية”، التي كانت سائدة في ذلك الوقت.

لكن الستار لم يُسدل بعد على قصة تفشي فيروس “إتش آي في”.

فعلى سبيل المثال، حدث تفشٍ للفيروس خلال العام الجاري في ولاية إنديانا الأمريكية، وكان ذلك مرتبطا بتعاطي المخدرات عن طريق الحقن.

ويقول ناتان غراد، الباحث بكلية هارفارد للصحة العامة في مدينة بوسطن بولاية ماساشوستس، إن مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها في الولايات المتحدة تعكف على تحليل المتواليات الخاصة بمُورِثات فيروس “إتش آي في” والبيانات المتعلقة بزمان ومكان حدوث الإصابة به.

وأشار غراد إلى أن هذه البيانات تساعد “على إدراك حجم تفشي الفيروس، كما ستساعد كذلك على تحديد المرحلة الزمنية” التي آتى فيها تدخل السلطات الصحية بثماره في مواجهة انتشار العدوى.

ويمكن أن يستخدم النهج نفسه مع فيروسات أخرى مُسببة للأمراض بدورها. ففي عام 2014، نشر غراد وزميله مارك ليبزيتش دراسة استقصائية بشأن مسألة تفشي نمطٍ مقاوم للعقاقير الدوائية من مرض السيلان في أنحاء مختلفة من الولايات المتحدة.

وفي هذا الصدد، يقول ليبزيتش: ” كان بمقدورنا أن نُبيّن أن مسار تفشي (المرض) يمضي من الغرب إلى الشرق، نظرا لأنه كانت لدينا متواليات (لمُورِثات الفيروس).. أُخِذتْ في أوقات متباينة ومن أشخاص في مدن مختلفة، لهم توجهات جنسية مختلفة كذلك”.

أكثر من ذلك، كان بوسع هذين الباحثيّن تأكيد أن ذلك النمط المقاوم للعقاقير من السيلان، ينتشر بالدرجة الأولى على ما يبدو بين الرجال الذين يمارسون الجنس المثلي. وربما دفع ذلك إلى زيادة عمليات الفحص التي تُجرى على هذه الشريحة الأكثر عرضة للخطر، وذلك في مسعى للحد من انتشار المرض.

بعبارة أخرى، فإن هناك تأثيرا حقيقيا وفعالية واضحة، لدراسة فيروسات – مثل “إتش آي في” المسبب لمرض الإيدز أو الميكروبات المسببة لمرض السيلان – من خلال مجهر المجتمع الإنساني والظروف السائدة فيه.

يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Earth.

+ -
.