الأنثروبوسين.. عصر جيولوجي جديد من صنع البشر

في خضم المشاكل والقضايا السياسية والاقتصادية المتكاثرة التي يعج بها حاليا كوكبنا البائس، يدور داخل الأوساط العلمية نقاش حام ومحتدم حول حقيقة دخول كوكب الأرض عصرا جيولوجيا جديدا، هو عصر الأنثروبوسين أو العصر الجيولوجي البشري، وما إذا كان أحرى بالجيولوجيين وبقية العلماء المختصين الإقرار بهذا رسميا وإضافته للسلم الجيولوجي وسجل الأرض، على اعتبار أنه أحدث العصور الجيولوجية أو التريث في الأمر حتى تتضح الصورة بالكامل وتتم الإجابة على كل الأسئلة والاستفسارات المطروحة حول هذا الشأن.
ومن أبرز تلك الأسئلة متى بدأ بالضبط عصر الأنثروبوسين؟ وهل يكفي حجم التأثيرات البشرية وتداعياتها حقا لإضافة عصر جديد إلى السلم الجيولوجي؟

تاريخ الأرض الجيولوجي
معلوم أن كوكب الأرض، الذي يقدر عمره بحوالي 4.5 بلايين عام، قد مر في الماضي السحيق بأحداث جيولوجية جسام وبمراحل تطور معقدة أدت إلى تطور الحياة البيولوجية عليه تدريجيا بداية من ظهور الكائنات البسيطة وحيدة الخلية ثم الثدييات وبقية المخلوقات الأكثر تطورا، حتى ظهور الإنسان، وهو أرقى الكائنات وأكثرها ذكاء ونشاطا على وجه المعمورة.

ومن أجل تبسيط هذا التاريخ الطويل والمعقد، عمد علماء الجيولوجيا إلى تقسيم تاريخ الأرض ونشأة الكائنات عليها إلى حقب وعصور وفترات متسلسلة زمنيا، وكل منها يتميز بظروف بيئية محددة وبظهور أو سيادة مجموعة معينة من الكائنات أو مظهر ما من المظاهر الطبيعية وتأثيره البالغ على أوجه الحياة الأخرى بل وعلى الرسوبيات المكونة لطبقات الأرض، وهذا ما يعرف إجمالا بمقياس الزمن الجيولوجي أو السلم الجيولوجي.

وحسب هذا السلم، قسم الزمن الجيولوجي حسب العمر النسبي للصخور إلى “دهور” وهذه إلى “حقب”، والحقب إلى “عصور” والعصور إلى “فترات” والفترات إلى “مراحل”.
ويبدأ هذا السلم بحقبة ما قبل الكامبري التي استمرت لما يقرب من 4000 مليون عام أي حوالي 88% من الزمن الجيولوجي الكلي، وظهرت في نهايتها الطحالب والفطريات البدائية والرخويات البحرية.
ويلي هذه الحقبة العصر الكامبري الذي بدأ قبل 570 مليون سنة مضت، ويؤشر على بداية حقبة الحياة القديمة وظهور الكائنات الحية الأكثر تطورا.
وتتتابع بعد ذلك بقية الحقب والعصور الجيولوجية التالية للكامبري على السلم الجيولوجي من الأقدم للأحدث إلى أن تنتهي بعصر الهولوسين الذي بدأ قبل حوالي 11 ألف عام، أي بعد العصر الجليدي الأخير، وقد تميز بظروف بيئية مستقرة ونهوض الحضارات الإنسانية، وتطور شكل الحياة البشرية والبيولوجية إلى ما نحن عليه الآن.

لكن يبدو أن وضع الهولوسين على قمة السلم الجيولوجي ونعته بأحدث وآخر العصور الجيولوجية لن يدوم طويلا، ذلك أن هناك محاولات جادة وحثيثة يجريها بعض العلماء حاليا من أجل إضافة عصر جيولوجي جديد إلى ذلك السلم، هو عصر الأنثروبوسين أو العصر الجيولوجي البشري كما تشير إلى ذلك الترجمة الحرفية (“أنثروبو” أي من صنع الإنسان، و”سين” تعني عصر جيولوجي).

تأثير البشر
يستند المطالبون بإضافة عصر الأنثروبوسين الجديد للسلم الجيولوجي إلى دخول كوكب الأرض عصرا جديدا، يتميز بتقلص دور العوامل والدورات الطبيعية في تشكيل أنماط الحياة وطبقات الأرض الترسيبية كما كان الحال إبان الحقب والعصور الجيولوجية الأخرى القديمة، كالعصر الكربوني مثلا الذي بدأ قبل 300 مليون سنة ضمن حقبة الحياة القديمة.
وقد تميز بسيادة المناخ الاستوائي، مما أدى إلى ظهور الأشجار البدائية الكبيرة، وانتشار الحشرات المجنحة والمرجانيات.

ويتميز عصر الأنثروبوسين الجديد أيضا بزيادة تأثير الأنشطة البشرية ودور الجنس البشري عموما في تغيير أحوال البيئة والمناخ وجميع الأنظمة الحيوية في كامل انحاء المعمورة.

غير أن محاولات إضافة الأنثروبوسين للسلم الجيولوجي لم تتولد فجأة ولم تنبع من الفراغ، فقد ذاع مفهوم “الأنثروبوسين” والتأثير البشري على الأنظمة البيئية للكرة الأرضية بصفة عامة، ضمنيا لما يقرب من نصف قرن تقريبا، وهذا ضمن الأدبيات العلمية وضمن نقاشات وأبحاث العلماء المتخصصين.

ومع ذلك فإن صياغة واستخدام مصطلح “الأنثروبوسين” بصفة رسمية لم تتم ولم تنتشر إلا منذ وقت قريب نسبيا، وهذا بفضل عالم المناخ الهولندي الأصل بول كروتزين الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1995.
ونشر كروتزين في بداية الألفية الثانية أكثر من ورقة علمية في مجلة نيتشر وغيرها من المجلات العلمية العالمية المرموقة، خلصت جميعها إلى أن البشرية قد أحدثت تغيرات كبيرة على وجه الأرض، بحيث أصبحت البصمة البشرية واضحة على جميع الأنظمة البيئية الحالية، بل وعلى الطبقات الترسيبية والسجل الجيولوجي لكوكب الأرض.
وأصبح من الأنسب التحدث عن عصر جيولوجي جديد، يمثل فيه العنصر البشري دور اللاعب الرئيسي، تماما مثلما كان الحال مثلا أيام العصر الجيوراسي، حينما كانت الديناصورات والزواحف الضخمة تسود الأرض وكل المخلوقات الأخرى.

وقد أُطلق كروتزين اسم “الأنثروبوسين” على هذا العصر أي العصر الذي صنعه الإنسان مقترحا وضع نهاية القرن الثامن عشر كحد فاصل بين العصر الجديد وعصر الهولوسين، وهذا على اعتبار أن هذا التاريخ يمثل انطلاق الثورة الصناعية، وبداية التحول الجذري في العلاقة الكائنة بين الإنسان والبيئة المحيطة.
لكن نفرا آخر من العلماء اعتبر أن العصر الجديد قد بدأ فعليا قبل ذلك بوقت طويل، وتحديدا مع بوازغ الثورة الزراعية حينما بدأ البشر زراعة الأرض وتدجين الحيوانات.

مستقبل الأرض
بغض النظر عن المسميات وعن الجدال والنقاش الدائر حول جدوى إضافة عصر جديد للسلم الجيولوجي من عدمه، وحول تاريخ بدايته، فالثابت أن الإنسان قد تدخل في كل شيء وغير من كل شيء، بداية من التربة السطحية مرورا بالبحار والمسطحات المائية، وحتى طبقات الجو العليا.

والثابت أيضا أن التأثيرات البشرية الحادثة خلال العصر الحالي سواء سمي بالأنثروبوسين أو ظل جزءا من الهولوسين، قد فاقت كل الحدود وأن مستقبل الأرض بل والبشرية نفسها أصبحا حقيقة في خطر، وهذا بسبب تفاقم المشاكل البيئية الناجمة عن هذا التدخل، وبسبب التداعيات المستقبلية السيئة المتوقعة.

فمشاكل مثل الاحتباس الحراري وزيادة وتيرة المجاعات والعواصف وانتشار الأمراض الوبائية والفيضانات وتصحر الأراضي وحموضة البحار وفقد التنوع الإحيائي وغيرها ترجع في الأساس إلى زيادة الضغوط البشرية على الموائل والنظم الطبيعية، وهي بغض النظر عن محركاتها، تتسبب في هلاك آلاف البشر والكائنات الأخرى يوميا، سواء أكان هذا بشكل مباشر أو غير مباشر.
وتتسب الحروب وبقية الممارسات البشرية السيئة الأخرى في خسائر يومية رهيبة في مقدرات كوكب الأرض الحالية، سواء أكانت بشرية أو غير بشرية.

وثمة اعتقاد أيضا بأن مشاكل العصر الحالي وحجم التأثير البشري الناتج ستتفاقم بشدة بحلول منتصف القرن، وتحديدا حين يصل تعداد العالم إلى أكثر من تسعة بلايين نسمة، ويتزايد الانفجار السكاني العالمي، ويتزايد معه مقدار الضغوط الواقعة على موارد المياه ومصادر الغذاء وبقية المقدرات والنظم المتاحة.
ولا يستبعد البعض في ظل هذا حدوث موجة جديدة وكبيرة من الانقراض الجماعي واختفاء أعداد هائلة من الكائنات الحية.
وبالطبع لن يكون الإنسان في مأمن من ذلك، إذ إن ارتفاع مستوى سطح البحر الناتج عن تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري وتغير المناخ العالمي مثلا، يمكن أن يؤدي إلى غرق أجزاء كبيرة وممتدة من المناطق الساحلية عبر العالم، وهذا بدوره يمكن أن يؤدي إلى هجرة ملايين الأفراد، وهلاك ملايين آخرين.

كل هذا يكشف أن هناك تحديات كبيرة تواجه الجنس البشري في عصر الأنثروبوسين الحالي، وهناك مشاكل كثيرة يمكن أن تهدد سلامة واستقرار المجتمعات البشرية في الفترة القادمة.
ويجب على الجميع التكاتف من أجل تصحيح الوضع البيئي الحالي وتقليل المخاطر المستقبلية المتوقعة وعبور هذا العصر بأقل قدر من الضرر لنا ولشركائنا الآخرين في كوكب الأرض.
ترى هل سننجح في ذلك؟ أم سنستمر على ما نحن فيه ويكون مصيرنا الانقراض أو الفناء، كما حدث من قبل مع الديناصورات، أضخم وأقوى ما ظهر على وجه البسيطة؟
_______________
*باحث علمي حاصل على الدكتوراه في الدراسات البيئية والاستشعار عن بعد

+ -
.