التمويل الأميركي سياسي لا تنموي

(لا يحتاج المراقب العربي إلى الذهاب أبعد من مصر أو الأردن ليتأكد بأن مليارات من المعونات الأميركية المشروطة سياسيا عبر عدة عقود من الزمن لم تخلق أي تنمية حقيقية فيهما)

بقلم نقولا ناصر*

لم تترك مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون أوروبا الشرقية، فكتوريا نولاند، مجالا للشك في التمويل الأميركي والأوروبي ل”الاحتجاجات الشعبية” التي قادت مؤخرا إلى “تغيير النظام” في أوكرانيا عندما أكدت في خطاب لها في نادي الصحافة القومي بواشنطن العاصمة في كانون الأول / ديسمبر الماضي أن بلادها قد “استثمرت 5 مليارات دولار في تنظيم شبكة لتحقيق أهداف الولايات المتحدة في أوكرانيا”.

ونولاند هي زوجة روبرت كاجان أحد قادة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الذي شارك في تأسيس “مشروع القرن الأميركي الجديد” وكان “الأب الآيديولوجي” للغزو الأميركي – البريطاني للعراق، وقد زارت كييف حيث خاطبت المحتجين ممن “استثمرت” بلادها فيهم، لا بل لم تجد حرجا في التقاط صور لها مع زعيم الحزب المتهم بالنازية الجديدة في العاصمة الأوكرانية. لكنها اشتهرت مؤخرا بفضيحة تسريب مكالمة هاتفية مسجلة لها مع السفير الأميركي في كييف استخدمت فيها كلمة جنسية نابية ضد الاتحاد الأوروبي ودوره في حل الأزمة الأوكرانية.

و”الشبكة” التي أشارت نولاند إلى “تنظيمها” هي “شبكة” من المنظمات غير الحكومية التي كان يتم التمويل الأميركي للاحتجاجات الأوكرانية من خلالها كما أكد د. بول كريغ روبرتس، المساعد الأسبق لوزير الخزانة الأميركي للسياسة الاقتصادية والذي كان كاتب عامود صحفي في “الوول ستريت جورنال” و”بزنس ويك”، في مقال له نشرته “فورين بوليسي جورنال” في الثامن عشر من شباط / فبراير الماضي.

على سبيل المثال، في كانون الأول / ديسمبر الماضي كتبت الفايننشال تايمز البريطانية أن أوليه ريباتشوك، الذي له علاقة طويلة مع وزارة الخارجية الأميركية، “لعب دورا كبيرا في إثارة الاحتجاجات واستمرارها” من خلال منظمة “المواطن الجديد” غير الحكومية التي يقودها. وفي آذار / مارس عام 2012 تبجح ريباتشوك، الذي لعب دورا قياديا في “الثورة البرتقالية” في أوكرانيا عام 2004، بأنه كان يعد لثورة برتقالية جديدة، قائلا: “لدينا الآن 150 منظمة غير حكومية في كل المدن الكبرى … لقد كانت الثورة البرتقالية معجزة … ونريد أن نفعلها ثانية”. وقد فعلوها.

في “الثورة البرتقالية” الأوكرانية الأولى، ذكرت الغارديان البريطانية في السادس والعشرين من الشهر الحادي عشر عام 2004 أن “المعهد الديموقراطي القومي” للحزب الديمواقراطي الأميركي و”المعهد الجمهوري الدولي” لمنافسه الحزب الجمهوري، اللذين يتداولان الحكم في الولايات المتحدة، ووزارة الخارجية الأميركية والوكالة الأميركية للتنمية الدولية “يو اس ايد – USAID” كانت هي “الوكالات الرئيسية المشاركة في هذه الحملات الشعبية” بالإضافة إلى “فريدوم هاوس” والملياردير جورج سورس.

و”يو اس ايد” هي إحدى وكالات وزارة الخارجية الأميركية التي تستخدمها الوزارة أداة قوة ناعمة لا تتردد في القفز من فوق رؤوس الحكومات للتعامل مباشرة مع المستهدفين في برامجها، كما لا تتردد في دخول البلدان بطريقة غير شرعية في انتهاك سافر لسيادة الدول المستهدفة.

فعلى سبيل المثال عندما قررت روسيا في أواخر أيلول / سبتمبر عام 2012 إغلاق مكاتب الوكالة في موسكو نشرت النيويورك تايمز في اليوم التالي تقريرا عن كيفية الالتفاف على القرار الروسي، فالوكالة يمكنها صرف أموالها على المستفيدين منها في روسيا عبر مؤسسات أميركية اخرى مثل “الوقف القومي للديموقراطية” والصناديق الخاصة مثل ماكآرثر ومعهد “أوبن سوسيتي” الذي يملكه الملياردير سوروس و”فريدوم هاوس” والبرامج الروسية في الجامعات الأميركية أو يمكنها توكيل شركات في القطاع الخاص للقيام بمهامها بموجب عقود مثل تلك التي وقعتها مع شركة “سيسكو سيستمز”. ولإخفاء صلة أميركا بالتمويل تستطيع “يو اس ايد” تصريف تمويلها عبر قنوات شريكة لها في الدول المجاورة لروسيا مثل جورجيا وبولندا وأوكرانيا.

وإغلاق مكاتب “يو اس ايد” لم يقتصر على روسيا. ففي سنة 2005 منعتها دولة إفريقية فقيرة مثل اريتريا من العمل في أراضيها بقرار وصفته بأنه “لا رجعة عنه … لأننا غير مرتاحين لعمليات مكتب يو اس ايد في أسمرة” العاصمة التي أكدت في ذات الوقت على رغبتها في “علاقة قوية مع الولايات المتحدة الأميركية” لكن على أساس “حكومة لحكومة”.

وفي القارة الإفريقية اتهمت حكومة كينيا الوكالة الأميركية بتمويل نشاطات تستهدف الإطاحة بحكومتها في الثالث عشر من شباط / فبراير الماضي. وفي زيمبابوي عام 2012 قال تقرير لحزب زانو الذي يقوده الرئيس روبرت موغابي إن منظمات غير حكومية تمولها بريطانيا وبعض دول الاتحاد الأوروبي الأخرى والولايات المتحدة واستراليا وكندا ونيوزيلاندا كانت “تعمل ليل نهار لعزل الرئيس موغابي وحزب زانو من السلطة”.

وفي أميركا اللاتينية لم يكن نشاط “يو اس ايد” أكثر احتراما لسيادة بلدانها ومبدأ عدم التدخل في شؤونها الداخلية. وفي الحادي والعشرين من حزيران / يونيو عام 2012 قرر المجلس السياسي ل”التحالف البوليفاري” (ألبا) الذي يضم بوليفيا وكوبا واكوادور والدومينيكان ونيكاراغوا وفنزويلا في اجتماع له في ريو دي جانيرو عاصمة البرازيل طرد الوكالة الأميركية من دوله الأعضاء متهما هذه الوكالة بكونها “عامل اضطراب ضد السيادة والاستقرار السياسي” لدول “ألبا” لأنها تمول جماعات ونشاطات ومنابر إعلامية وقادة سياسيين ومنظمات غير حكومية تقود إلى “عدم استقرار الحكومات الشرعية”.

وكان التمويل الأميركي لمثل تلك المنظمات قضية ساخنة في علاقات الولات المتحدة مع مصر عبر عهود كل رؤسائها منذ الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وحتى الآن.

وفي فلسطين، حيث تتكاثر المنظمات غير الحكومية الممولة أميركيا وأوروبيا كالفطر وحيث تطيل حكومة “يو اس ايد” عمر الاحتلال بحماية دولته وتمويلها وتسليحها، تعفي الوكالة الأميركية دولة الاحتلال الإسرائيلي من التزاماتها المالية بموجب القانون الدولي تجاه الشعب الخاضع للاحتلال لتكون أكبر مانح ثنائي له بينما الاتحاد الأوروبي هو أكبر مانح جماعي له، لتتحول معونات اليو اس ايد للشعب الفلسطيني تحت الاحتلال عمليا إلى إضافة غير مباشرة للمعونات الأميركية المباشرة لدولة الاحتلال.

والأنكى من ذلك أن المشاريع التي تمولها اليو اس ايد في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 تتقيد بشروط دولة الاحتلال فتستثني، على سبيل المثال، القدس من مشاريعها، ناهيك عن استثناء قطاع غزة حيث الحاجة أمس للمعونات ومشاريع التنمية، و”تحسن نوعية حياة” الشعب الخاضع للاحتلال على الطرق الالتفافية العنصرية التي فرضها الاحتلال للوصل بين المدن الفلسطينية بعيدا عن المستعمرات الاستيطانية غير الشرعية من أجل حمايتها.

غير أن الأدهى من كل ذلك هو أن مشاريعها الأخرى للتنمية “الديموقراطية” والاجتماعية مصممة لتكون أداة ثقافية وتنظيمية موجهة ضد حركة المقاومة الوطنية للاحتلال، فتمويل هذه المشاريع وغيرها مشروط سياسيا بتوقيع تعهد بنبذ المقاومة وتمويلها ودعمها بدعوى محاربة “العنف والإرهاب” ومشروط بأن لا يكون المستفيدون من تمويل اليو اس ايد وتفريخاتها من المنظمات غير الحكومية أعضاء في منظمات المقاومة المصنفة إرهابية من دولة الاحتلال ومن راعيها الأميركي معا، وهو ما يحول هذا التمويل الأميركي إلى جزء من استراتيجية دولة الاحتلال للقضاء على المقاومة الفلسطينية.

ومع أن “يو اس ايد” تستهدف “التنمية الدولية” كما يستدل من اسمها، فإنها تقدم معونات لا علاقة لها بالتنمية في الواقع بقدر ما تخدم بقوتها الناعمة الأهداف السياسية الأميركية التي لا تضطر الولايات المتحدة إلى تحريك قوات البنتاغون العسكرية لتحقيقها بتكاليف أعلى كثيرا.

فإسهامها الفعلي في التنمية في البلدان التي تمول مشاريع فيها لم يتعد حتى الآن تنمية النفوذ الأميركي فيها وتنمية منظمات غير حكومية جاهزة ل”تغيير النظام” فيها في أي وقت يخرج فيه هذا النظام على الاستراتيجية الأميركية او ينحرف عنها.

ولا يحتاج المراقب العربي إلى الذهاب أبعد من مصر أو الأردن ليتأكد بأن مليارات من المعونات الأميركية المشروطة سياسيا عبر عدة عقود من الزمن لم تخلق أي تنمية حقيقية فيهما بقدر ما خلقت فيها تبعية للاستراتيجية الإقليمية والدولية للولايات المتحدة.

لقد كان أستاذ ممارسة التنمية الاقتصادية في مدرسة كنيدي للحكم بجامعة هارفرد البروفسور لانت بريتشيت على حق عندما تساءل في مقال له عام 2009 عما إذا كانت اليو اس ايد “وكالة مهمتها تعزيز التنمية حقا”.

_________________________________

* كاتب عربي من فلسطين

* nassernicola@ymail.com

+ -
.