الحضارة وذكاؤها الاصطناعي: صنعته وتطوّره… فلماذا تخشاه؟

في فيلم هوليوودي نال شهرة واسعة، نرى إنساناً يحتوي جسده مكوّنات ميكانيكيّة مؤتمتة، وهو يتعاطف مع روبوت متّقد الذكاء إضافة لاعتقاده أنه يملك بُعداً إنسانيّاً فيه! يتعاون الطرفان سويّة في التصدي لمحاولة روبوتات متمرّدة للتسلّط على حضارة كوكب الأرض.

وفي المقابل، يبدو اندحار الروبوتات المتسلّطة كأنه مقدمة لثورة كبرى هدفها تحرير الروبوت من تسلط البشر، وكذلك نقل العلاقة بين الطرفين إلى آفاق جديدة نوعيّاً. حمل ذلك الشريط اسماً غرائبيّاً «أنا، روبوت» I, Robot (إخراج: آلكس بروياس، بطولة: ويلي سميث- 2004). ويحمل الاسم إشارة إلى الفكرة الأساسيّة في الفيلم وهي التداخل بين ذكائي البشر والروبوت، إضافة إلى غموض آفاق ذلك التداخل.

ظهر الفيلم على الشاشات في السنة عينها التي حقّق فيها الروبوت، وهو نموذج الذكاء الاصطناعي المتقدّم، قفزة نوعيّة في تطوّره. إذ حطّ الروبوتان «أوبورتشينيتي» و «سبيريت» على سطح المريخ، الذي لم يصل إليه بشر بعد.

وعلى الأرض، دخلت الروبوتات التجارية مرحلة الرقص والغناء مع روبوت «كيريو»، الذي تصنعه شركة «سوني». وصار الروبوت شبه البشر «أسيمو» خبيراً في العلاقات العامة. ودخل إلى مجال التعليم. وأنجز أول جولة علاقات عامة على المدارس الأميركيّة، في حملة هدفت لإضفاء مزيد من الدفء على العلاقة بين البشر والروبوت!

وحينها، كانت تلك العلاقة تعاني أشياء كثيرة، كتفوّق الروبوت على البشر في الشطرنج. والأرجح أن لا مبالغة في القول إن تفكير البشر في الذكاء الاصطناعي وتطوّره، يميل إلى التوجس، ويخالطه الكثير من الخوف. لماذا يخشى الإنسان ذكاءً يصنعة بيده وعلى هواه؟

ثورة الـ «سوشال ميديا»

في المقابل، يمكن طرح سؤال عن مدى تقليد البشر الآلات التي صنعوها أصلاً كي تقلّدهم! بمعنى أنّه عندما توسّع البشر في صنع آلات الذكاء الاصطناعي، صار بعض من نواحي تفكيرهم «اصطناعيّاً».

ويذكّر ذلك بفيلم هوليوودي تاريخي هو «الأزمنة الحديثة» للممثل شارلي شابلن، الذي أدى دور عامل مصنع يعمل كأنه يشبه تلك الآلات التي تدور في المصنع. متى يظهر عمل فني ليقول إن الإنسان بات «يقلد» الكومبيوتر في حياته وتصرفاته؟

تلح تلك الأسئلة، في زمن تفجّر ثورة الـ «سوشال ميديا»، أي شبكات الوسائط الرقميّة المستندة إلى أدوات إلكترونيّة ذكيّة تحركها برامج المعلوماتية. والأرجح أنّ شبكات ال «سوشال ميديا» غيّرت شيئاً كثيراً من ملامح البيئة الاجتماعيّة – الثقافيّة في عيش الإنسان المعاصر.

وفي الأمكنة كافة، تظهر أجهزة الكومبيوتر والتلفزيون والراديو المتطوّر، إضافة إلى ظاهرة الخليوي والهواتف الذكيّة التي باتت أكثر انتشاراً من أيدي البشر التي تحملها!

ويشكل ذكاء تلك الآلات خيطاً مشتركاً بينها، كما يميّزها عن أجيال سبقتها من الأدوات الميكانيكيّة والكهربائيّة.

ويمكن تعريف الذكاء الاصطناعي بأنه قطاع علمي تستخدم بحوثه في تمكين الكومبيوتر من الوصول إلى ذكاء يشابه العقل البشري، أو ربما… يفوقه؟ ويتضمن ذلك أموراً كثيرة ليس بالضرورة أن تدلّ مباشرة إلى الذكاء، مثل تحرّك الروبوت وسط عوائق من دون الاصطدام بها، أو الحصول على معلومات تفصيليّة عن البيئة التي تحيط به.

ولزمن طويل، احتكر البشر تلك المؤهلات، وسادوا في الأرض بمساعدة القدرة على التعلّم، والمشاركة في الخبرات، وتبادل الأفكار عبر اللغة وغيرها.

برامج لذكاء الآلات

تنجز برامج الذكاء الاصطناعي أموراً عدة كبرامج الألعاب الرقميّة التي تتبارى فيها الآلات عمليّاً مع نفسها أو مع طرف آخر ربما يكون إنساناً أو روبوت.

ونهض عالم الألعاب الإلكترونيّة المستنِدْ إلى الذكاء الاصطناعي بمئات بلايين الدولارات، بفضل إنجازات علماء الكومبيوتر ومختبراته. ويستطيع مستخدم الكومبيوتر أن يجرّب بنفسه كيف تتجاوب بعض الألعاب بسهولة مع الاحتمالات المتغيّرة لذكاء البشر، وهو أمر يعتبر من التطبيقات السهلّة نسبيّاً للذكاء الاصطناعي.

من المستطاع الحديث عن مثل آخر. لربما حضّرت مختبرات شركة ما برنامجاً ذكيّاً للتعامل مع صناعة السيارات. في تلك الحال، ينبغي على الشركة أن تحضّر كل الاحتمالات التي ربما يواجهها البرنامج وتلقّمه إيّاها. إذا كانت احتمالات العمل محدودة، تصبح عملية تحضير البرنامج ممكنة وعادية.

وإذا حضر برنامج في الذكاء الاصطناعي ليتعامل مع احتمالات كبيرة ومعقّدة، فقد تكون العملية أشد تعقيداً، كحال البرنامج الذي يدير الروبوت – الجرّاح «دافنشي».

وباختصار، تعتمد برامج الذكاء الاصطناعي على كمية المعلومات التي تتصف بها مميزات عمل الإنسان الذي تحلّ محله. وكلما كان دور العنصر البشري أكثر ذكاءً، يصير برنامج الذكاء الاصطناعي الذي يقلّده أكثر تعقيداً.

وتاريخيّاً، شهدت دول العالم المتقدّمة ولادة جهاز الكومبيوتر في أربعينات القرن العشرين. وسارعت إلى استخدامه عسكريّاً، نظراً الى اندلاع الحرب العالميّة الثانية.

وتوزعت الاستخدامات العسكريّة للكومبيوتر على السفن والطائرات والآليات البرية والاتصالات العسكرية. ولعل أفضل تطبيقاته تمثّل في فكّ رموز الشيفرات العسكريّة للخصوم.

وفي العام 1956، حدثت قفزة في مفهوم الذكاء الاصطناعي، مع تطوير رياضيّاته النظريّة على يد جون مكارثي، الذي لُقب بـ «أبو الذكاء الاصطناعي»، وحاز «جائزة تورينغ» في العام 1973.

واستفاد الجيش الأميركي من تلك التطوّرات. وضخ ملايين الدولارات إلى «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا» لتطوير ذلك الذكاء ضمن مجال «الإدراك بمساعدة الآلات» Machine Aided Cognition.

ومن المعروف أن جهاز الكومبيوتر الضخم في وزارة الدفاع الأميركيّة يتحكم برد الفعل الأول على أي هجوم نووي. ويستخدم الذكاء الاصطناعي للتحكّم بردود الفعل العسكريّة السريعة حيال التطوّرات المعقدة.

وتفوق سرعة الأجهزة المستخدمة للتعامل مع الحروب، مئات المرات ما يستخدمه الأفراد العاديّون. إذ تقدر على استيعاب الحالات القتاليّة للجيوش الكبرى، واقتراح العمليات الدفاعيّة الملائمة.

وعلى رغم قدراتها في التعامل مع الحروب العالميّة، تبدو أدوات الذكاء الاصطناعي أقل اقتداراً عند تعاملها مع حروب العصابات، ما يعطي أهمية خاصة لما يحدث من معارك بين حلف الأطلسي، والقوى الإرهابيّة في العراق وسورية حاضراً.

ويورد الكولونيل الأميركي المتقاعد ديفيد هاكورث، في كتاباته عن حرب فيتنام، «في حروب العصابات، لا يعني التطوّر شيئاً كثيراً. وتركز تلك الحروب على عقاب للعدو وتجعله ينزف إلى درجة يتخلى فيها عن كل شيء، على غرار ما حدث معنا هناك»!

ما الذي سيكتبه لاحقاً ضبّاط البنتاغون، خصوصاً الذين يعملون في الحروب الإلكترونيّة، عندما يكتبون ذكرياته عن غارات الطائرات من دون طيّار («درون») في الحرب على الإرهاب، أو الصراعات مع تنظيم «داعش» الإرهابي على شبكة الإنترنت، ودور الذكاء الاصطناعي في تلك الأمور؟

+ -
.