الشرق الأوسط الجديد كما يراه جواد ظريف

بعد نجاح محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني، في التوصل إلى الاتفاق النووي مع زملائه في الولايات المتحدة والدول الست، جاء دوره في تسويق الاتفاق إقليمياً وتهدئة مخاوف دول الجوار وغيرها من الدول والقوى الدولية والإقليمية، من انعكاسات الاتفاق على أمنها واستقلالها ومصالحها الاستراتيجية. وفي هذا السياق، كتب ظريف ثلاثة مقالات مهمة، نشر أحدها في عدد من الصحف العربية والأجنبية. أبرز ما جاء في هذه المقالات دعوة أطلقها الوزير الإيراني إلى تشكيل «مجمع للحوار الإقليمي». تأتي هذه الدعوة، كما جاء في المقال الذي نشرته صحيفتا «السفير» اللبنانية و «الشروق» المصرية، بمثابة رد على الفوضى والاضطرابات التي لا تعرف الحدود، ومن «الفراغ» المنتشر في الدول المجاورة لإيران، كما جاء في المقال الذي نشرته «النيويورك تايمز».

جاء المشروع الذي اقترحه ظريف مختصراً ولكنه تضمن بضعة عناوين تكفي لمناقشته بصورة أولية خاصة من زاوية الأهداف المتوخاة منه، أي تبديد الانطباعات الخاطئة والسلبية حول سياسة طهران تجاه الجيران، وإزالة المخاوف المتوقعة التي أثارها الاتفاق الأميركي-الإيراني في الدول المجاورة. ولكن هل يحقق ما أطلق عليه أحد الكتاب وصف «قانون ظريف» الغايات المطلوبة منه؟ هل تضمنت الإيضاحات التي قدمها المسؤول الإيراني تطمينات كافية إلى المعنيين بالعلاقات العربية-الإيرانية؟ لقد أكد ظريف في مقالاته على ضرورة فتح صفحة جديدة من العلاقات بين دول المنطقة تقوم على احترام سيادتها واستقلالها السياسي وعلى الامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين. ولكن مشروع ظريف تضمن عدداً من العناوين والمقترحات التي تراكم مخاوف الجيران وتناقض تماماً العنوان الذي اختاره لمقاله باللغة العربية.

الفكرة المحورية في مشروع ظريف هي إنشاء مجمع للحوار الإقليمي. وهذا المجمع يتأسس على مرحلتين: الأولى ينشأ فيها المجمع «في منطقتنا» والثانية، تشمل الفكرة جميع الدول الإسلامية في الشرق الأوسط. في الحالتين يتحاشى ظريف، في مقاله باللغة العربية، التحديدات، ويترك الباب مفتوحاً أمام أسئلة عديدة.

ففي مقال «نيويورك تايمز»، يتحدث الوزير الإيراني عن المجمع في مرحلته الأولى باعتباره «منتدى جماعياً لمنطقة الخليج الفارسي الموسع». أما في مقاله بالعربية فإنه يكتفي بالإشارة إلى «منطقتنا». هل سقط هذا التحديد من المقال العربي سهواً؟ الأرجح أنه كان مقصوداً. ذلك أن هذا التحديد سوف يفتح الباب أمام تجدد الجدل حول هوية الخليج. لقد كان استخدام مصطلح «الخليج الفارسي» موضع انتقادات كثيرة في دول الخليج الأخرى. ومع تفاقم هذه الانتقادات والمخاوف التي عكستها، تم التوصل إلى اتفاق على استخدام تسمية الخليج كوصف للمنطقة فحسب. وشاعت هذه التسمية في الأوساط الدولية السياسية وغير السياسية بحيث إنها لم تعد تثير الالتباس. لماذا لم يطلق ظريف تسمية «مجمع الحوار الخليجي» على مشروعه إذاً، سواء عرضه بالعربية أم بالإنكليزية؟ هل تكمن دلالات سياسية وعامة وراء الإصرار على هذه التسمية؟ هل يريد وزير الخارجية الإيراني تكريس هذه التسمية دولياً مقدمة لتكريسها إقليمياً؟

إن بعض فقهاء الدراسات الشرقية قد يرى خطأ في الاهتمام بمسألة الهوية لأنها تركز على قضايا ثانوية في الوقت الذي ينبغي التركيز على القضايا الجوهرية. ولكن من قال إن الصراع حول الهوية بعيد من مصالح الشعوب وحقوقها، أي من القضايا الكبرى؟ إن اكثر الذين اعترضوا على استخدام مصطلح «الخليج الفارسي» لم يعترضوا على حق الإيرانيين في التاريخ ولا في الجغرافيا. وأكثر هؤلاء من الذين يحترمون الحضارة الفارسية ويرغبون في مصادقة إيران والتعاون معها، فارسية كانت أم إيرانية. ولكنهم أعربوا عن خشيتهم من أن يمهد إطلاق الصفة الفارسية على الخليج إلى قيام نظام إقليمي غير عادل وغير منصف، وإلى تحول الصفة الفارسية إلى مسوّغ للمطالبة بالامتيازات لإيران على حساب غيرها من الدول الخليجية الأصغر حجماً من حيث عدد السكان والمساحة والإمكانات العسكرية. فهل هناك مسوغ لهذه المخاوف؟

قد تكون هذه المخاوف في غير محلها لو أن مجمع الحوار الإقليمي سوف يبدأ بالحوار ويستمر به كإطار خليجي لتبادل الآراء وللتعاون المحدد والمحدود بين دول الخليج. هذا ما يوحي به المقال المنشور باللغة العربية. أما مقال «نيويورك تايمز» فإنه يذهب إلى أبعد من ذلك، إذ يتضمن تحضيراً للأذهان لتحول منبر الحوار إلى تكتل إقليمي خليجي يضم في حلقته المصغرة دول «الخليج الفارسي الموسع» وفي حلقته الأوسع جميع الدول الإسلامية في الشرق الأوسط. فإلى أين يذهب بنا وزير الخارجية الإيراني البارع بعد إنجاز الاتفاق مع الولايات المتحدة؟

ما يقترحه ظريف هو في حقيقته دعوة إلى قيام «شرق أوسط جديد» يضم دولاً تجمع بينها «قواسم مشتركة في الدين والثقافة والسياسة والجغرافيا». تنطبق هذه السمات على ثلاثة تكتلات إقليمية موجودة في المنطقة، هي جامعة الدول العربية، منظمة المؤتمر الإسلامي ومنظمة التعاون الاقتصادي. ومن البديهي أن تسعى إيران وزعماؤها إلى قيام نظام إقليمي يضمها تحقيقاً للمنافع المحققة التي تأتي بها مثل هذه التكتلات للدول المشاركة فيها. ولقد بحث مسؤولون عرب مسألة انضمام إيران إلى جامعة الدول العربية كعضو مراقب، لكنهم لم يصلوا إلى نتيجة على هذا الصعيد. ولكن حتى لو وافقوا على الفكرة، فإن إيران تتوق إلى أن تكون أكثر من عضو مراقب في التكتل الإقليمي. أما منظمة المؤتمر الإسلامي، فهي أقرب إلى أن تكون شبيهة بالكومنولث منها بالاتحاد الأوروبي، بسبب كثرة عدد أعضائها. استطراداً، فان إيران تستطيع أن تبقى عضواً نشطاً في هذه المنظمة، ولكن هذا لن يقودها بعيداً على طريق الأقلمة.

تبقى منظمة التعاون الاقتصادي (إيكو)، فإذا أرادت إيران التعاون الإقليمي فان المنظمة تشكل الإطار النموذجي لإشباع طموحات الإيرانيين في هذا المضمار. إنها تضم إيران مع دول الجوار في تركيا وأفغانستان وباكستان ودول آسيا الوسطى. ومقر هذه المنظمة هو طهران، ومن ثم فإن أكثر العاملين في هياكلها وإداراتها التنفيذية هم من الإيرانيين أو من سكان طهران. وبحكم هذه الاعتبارات واعتبارات أخرى تتعلق بعلاقة إيران التاريخية ببعض مكونات مجتمعات الدول المنتمية إلى المنظمة، فقد اكتسبت إيران مكانة مرموقة فيها.

إذا كان هذا حال إيران في منظمة التعاون الاقتصادي، فلماذا لا تركز على تطويرها وتعميقها بحيث تحقق من خلالها فوائد التعاون الإقليمي؟ من الصعب أن يجد المرء جواباً على هذا السؤال وعلى الأسئلة التي أشرنا إليها أعلاه إلا أن الذين يمسكون بمقاليد الحكم في طهران لا يريدون حقاً التعاون الإقليمي، بل يريدون الهيمنة الإقليمية. والفرق بين الاثنين كبير. ويدرك الزعماء الإيرانيون هذا الفرق، لذلك فإنهم لا يعلقون الآمال الكبيرة على «إيكو»، لأن إيران لا تستطيع، لأسباب بديهية، الهيمنة على منظمة تضم تركيا وباكستان. أقصى ما تستطيعه طهران في منظمة مثل «إيكو» هو الاضطلاع بدور نافذ ولكن غير مهيمن. وهذا حالها أيضا في منظمة المؤتمر الإسلامي.

تبقى المنطقة العربية، حيث يجد صقور النخبة السياسية الإيرانية في انهيارها والتحديات التي تواجه دولها الرئيسية، فرصةً مناسبة لبسط هيمنة إيران على دول الجوار ولتأسيس تكتل إقليمي تتزعمه طهران ويشمل دول الخليج «الموسع» وعدداً من دول المشرق العربي. وسوف يكون هذا المشروع هو الأقرب إلى الإمبراطورية الفارسية التي يكثر الحديث عنها في طهران. لقد بدأ الوزير الإيراني مقاله بعنوان «الجار ثم الدار»، أما الشروح التي قدمها، فتوحي بأن ما يسعى إلى تسويقه هو مشروع يقوم على أساس أن «الجار للدار»، أي أن المنطقة العربية هي المدى الحيوي للنخبة الإيرانية الحاكمة. لذلك، من المرجح أن يعود ظريف من جولته العربية من دون أن يحقق نجاحاً كبيراً يوازي نجاحه في فيينا.

+ -
.