المتحكمون بالنشر العلمي في العالم

إلى حدود بداية الألفية الجديدة، لم تكن لأي جهة مختصة في النشر العلمي القدرة على ادعاء تحكمها في مجال حيوي مثل مجال المعلومة العلمية.

الفارق الوحيد الذي ميز المتنافسين في هذا الميدان هو مدى قدرة كل واحد منهم على إيجاد أكبر عدد من الزبائن لمنشوراته، والاستفادة بالتالي مما يتوفر له من أرباح عبر ما يصطلح عليه باسم “اقتصادات الوفرة”.

غير أن اعتماد كبريات الشركات خلال السنوات الـ15 الماضية على إستراتيجية التوسع والاندماج التدريجي بين بعضها، ساهم في إحكام قبضتها على معظم ما يُتداول في الساحة العلمية من أبحاث ودراسات، محققة أرباحا خيالية بدأت تسيل لعاب مؤسسات استثمارية جديدة لم يكن النشر العلمي يوما ما ضمن اهتماماتها.

الستة الكبار
وتأتي على رأس هذه المؤسسات الكبرى ستة أسماء بارزة في ساحة النشر العلمي اليوم، وهي مجموعات “ريد-إلسيفيي” الأولى عالميا في المجال، و”سبرينغر-ماكميلان” مالكة مجموعة “نيتشر”، وشركات “وايلي” و”طومسون رويترز”، و”وولترز كلوفير” و”إينفورما”.

وقد مكنت القدرات المالية الضخمة هذه الشركات من التحكم في أكثر من 40% من سوق النشر العلمي عبر العالم، إلى جانب فاعلين صغار وباقي الجمعيات العلمية التي بدأت تجتذبها إغراءات كبريات الشركات حتى تدخل تحت جبتها عاجلا أم آجلا.

وتشير الأرقام الأخيرة لمكتب الدراسات الأميركي “سيمبا” للمعلومات، إلى أن مجموعة “ريد-إلسيفيي” الهولندية البريطانية تتربع عالميا على عرش النشر العلمي بنسبة 23% من المقالات المنشورة عالميا في المجلات المحكمة، تليها مجموعتا “سبرينغر-ماكميلان” و”وايلي” بنسبة 13 و12% على التوالي، بينما تتقاسم باقي المؤسسات نسبا بين 4 و6%.

التسويق العلمي
ولأنها لا تصرف ولو دولارا واحدا على المجهود الفكري الذي كان وراء إنتاج أي من المقالات العلمية، فإن جل هذه الشركات تجعل من الأنشطة المرتبطة بالتسويق أبرز وظائفها.

فقد أظهرت نتائج دراسة أنجزها المركز الوطني للبحث العلمي الفرنسي عام 2015 حول النشر العلمي، أن أنشطة التسويق والمبيعات تشكل الهاجس الأكبر لهذه الشركات، وليس البحث العلمي كما يعتقد الكثيرون خطأ.

والدليل على ذلك حسب الدراسة هو عدد العاملين لدى “ريد-إلسيفيي” في مجال التسويق والمبيعات والذين يمثلون حوالي ثلث المستخدمين ضمن طاقمها المكون من 15 ألف شخص.

ومن التفسيرات التي يسوقها المتابعون للشأن العلمي لشرح التطورات السريعة والمتنامية التي يعيشها قطاع النشر العلمي، هو أن كبار الناشرين اليوم ما زالوا يمتلكون الكثير من الحجج لثني المجتمع العلمي عن التفكير في البحث عن بديل لخدماتهم.

فبفضل تنويع هذه الشركات مجالات استثماراتها ولجوئها إلى تطوير الجانب التقني لخدماتها وإطلاقها منتجاتٍ مبتكرة كالمضامين ذات القيمة المضافة وأدوات التحليل والمقارنات الإحصائية، جعل الكل يخطب ودها حتى يضمن إشعاعه في الأوساط العلمية.

احتكار خفي
غير أن الاختراق الذي حققته الشركات العملاقة في الوسط العلمي بدأ يتجاوز -حسب البعض- الحدود المسموح بها، مما قد يصبح معها استقلال القرار الجامعي في مهب الريح.

فمن البديهيات اليوم أن النشر العلمي أصبح محددا أساسيا للمسارات المهنية والأكاديمية للباحثين والمسؤولين الجامعيين ولتصنيف جامعاتهم على الصعيد العالمي.

وحتى يستعر التنافس أكثر بين الباحثين والجامعات، جعلت شركة مثل “طومسون رويترز” إصدارها السنوي لترتيب المجلات وفق ما يسمى “إمباكت فاكتور” (مُعامِل التأثير)، موعدا توزع فيه شهادات التفوق والنجاح على “النجباء”.

ويقوم هذا المعامل على احتساب عدد الاستشهادات لمقالة صادرة حديثا في مجلة ما بمقالة سبقتها لأحد الباحثين في إحدى المجلات المحكمة.

ورغم الانتقادات الموجهة لطرق احتساب المُعامل واختلاف وتيرة الإنتاج العلمي بين مجال بحثي وآخر، فالكل يجري وراء الأضواء والتصنيفات المعيارية، فلم يعد يكفي أن تتضمن سيرة الباحث الأكاديمية مقالات منشورة في مجلات متخصصة، بل عليه أن يضمن أيضا قدر الإمكان نصيبه من الاستشهاد، ذلك أنه كلما ارتفعت نسبة الاستشهاد باسمه وبأبحاثه، ازدادت قوته التفاوضية في الحصول على أرقى المناصب في المؤسسات الجامعية المرموقة.

وإذا أضفنا لكل هذا ارتباط ترتيب أي جامعة في العالم بمؤشر النشر العلمي في المجلات المحكمة، ضمن مؤشرات أخرى، سنخلص دون عناء إلى أن الكل -باحثين ومؤسسات- يقعون تحت رحمة شركات عملاقة للنشر العلمي تسيطر اليوم على 50% من العناوين الكبرى المتداولة عبر المعمورة.

لذلك لم يكن غريبا أن تُعبِّر بعض الجامعات الغربية عن امتعاضها من استمرار وضع غير صحي كهذا تتحكم فيه الشركات في مصائر العلماء.

وكرد فعل قامت بعضها ودون سابق إنذار بتقليص ميزانية اشتراكها لدى كبريات دور النشر. ولعل أبرز حدث خلخل يقينيات المجتمع العلمي، إلغاء جامعة مونتريال الكندية اشتراكها في أكثر من 1400 عنوان لدى مجموعة “إلسيفيي” لوحدها.

هذه المبادرة القادمة من شمال أميركا رغم رمزيتها، قد تتبعها أخريات مستقبلا، إلى أن يجيب المجتمع الدولي على السؤال المغيّب: من يتحكم في النشر العلمي حقيقة؟

+ -
.