الموارد الطبيعية: كم تبقّى منها للجنس البشري؟

اعتاد البشر التعامل مع كوكب الأرض كمنجم متعدد الموارد، ينهلون منه كل ما يحتاجونه في حياتهم وحضاراتهم. ومنذ بضعة قرون، صار لزاماً على الأرض أن تزوّد بلايين البشر يلزمهم، وهم لا يملكون سوى ذلك المنجم.

ولم يتوانَ البشر عن استغلال موارد الأرض الحيويّة كلما تعرفوا على أهليتها وأهميتها. ومنذ ملايين السنين، لجأوا إلى الينابيع وضفاف الأنهار. ومنذ آلاف السنين، عمدوا إلى فلاحة التربة وزراعة الحقول. ومنذ أوائل القرن التاسع عشر، انتشرت سكك الحديد وارتفعت المباني وامتدّت كابلات النحاس في شبكات الكهرباء والمواصلات. كذلك باتت معادن ثمينة نادرة، قيد استخدام متزايد في الصناعات التكنولوجيّة الحديثة.

وحتى القرن التاسع عشر، استخدم الناس عدداً قليلاً من المعادن كالحديد والنحاس والرصاص والزنك والفضة والذهب. وحاضراً، تشمل مكوّنات الأشياء المستخدمة في الحياة اليومية، ما يزيد على مئة عنصر كيمياوي، بمعنى أن مكوّنات صارت تشمل كل العناصر الطبيعيّة. إذ أنّ المواد الأولية المعدنية ضرورية لتشغيل الاقتصاد الحديث وتقنيّاته. ومثلاً، يحتوي الخليوي ما يزيد على أربعين مادة معدنيّة، تمتد من الكلس المطحون في صناعة البلاستيك إلى المعادن الأشد ندرة المستخدمة في صناعة أنصاف الموصلات والخلايا الضوئية!

وعلى رغم أن الطلب العالمي على المعادن تضاعف 27 ضعفاً منذ أوائل القرن العشرين، استطاعت المناجم المتزايدة على الأرض تلبية ذلك التطلّب.

صفارة إنذار

تظهر دلائل عدّة أن الشعور السائد بديمومة الموارد والمواد الخام، ليس سوى وهم. ولم يعد بوسع البشر الاستمرار في سحب النفط والمعادن والمياه الجوفيّة، من دون الاصطدام بالخطوط الحمر الجيولوجيّة للكوكب. ولم يعد بعيداً مجيء زمن لا تستطيع فيه الموارد الأرضية المتناقصة تلبية حاجات البشر. ووصل الأمر إلى ذلك الحدّ بالنسبة للنحاس والفوسفور واليورانيوم والذهب والزنك وبعض العناصر الأخرى، بمعنى أنها أصبحت موشكة على النضوب خلال عقود قليلة مقبلة.

في المقابل، لا تبعث مسيرة الحاجات البشريّة من المواد والموارد عبر التاريخ، على التفاؤل. إذ حالت آليات اقتصاد السوق ومتطلبات العرض والطلب وعبقرية الإنسان، دون الوصول إلى حد الأزمة المستعصية. إذ يؤدي تناقص إحدى المواد الأولية إلى رفع ثمنها تلقائيّاً، ما يحفّز على التنقيب عن موادٍ بديلة وتطوير طرق استخراجها وسبل استخدامها. ومنذ بضع سنين، يتنامى الوعي العالمي العام بصدد تناقص احتياطيّات موارد الأرض. وربما لا يكون الإنذار بنضوب النحاس وجفاف آبار كثيرة من النفط، سوى مقدمة لنضوب لائحة طويلة من المواد الأوليّة الأخرى.

ثمة سؤال مقلق تماماً عن مدى امتلاك البشر صورة واضحة عن الثروات المعدنية المتبقّية في الطبيعة؟ الأرجح أن الإجابة هي «لا»، بكل غرابة. «ما يخصّص للاستثمار في استكشاف الثروات المعدنيّة في جوف الأرض أقل بكثير مما يخصّص للبحوث الفضائيّة»، وفق باتريس كريسمان، وهو المدير الاستراتيجي للموارد المعدنيّة في فرنسا. ويشير كريسمان إلى أنّ ما يخصّص لوكالتي الفضاء الأوروبيّة والألمانيّة يفوق 5 بلايين يورو سنويّاً. في المقابل، لا يزيد مجموع الصناديق المخصّصة للدراسات الجيولوجيّة الأوروبية على 760 مليون يورو سنويّاً. وأضاف كريسمان: «نعرف الفضاء الكوني، بأفضل مما نعرف عن باطن الأرض التي تحت أقدامنا».

ووفق كريسمان أيضاً، لا تبدو المنابع المعدنيّة في الكوكب على وشك النضوب، بالمعنى الجيولوجي للكلمة. إذ يمكن دائماً إيجاد حقول جديدة ومناجم جديدة، خصوصاً إذا أُخِذَ في الإعتبار مصادر الأعماق الجوفيّة التي ما زالت عذراء، وإن كانت كلفة الاستخراج تزداد مع عمق الآبار والمناجم. ووصلت عمليات التنقيب في المناجم إلى عمق 3900 متر في جنوب أفريقيا، ما يعني أن المصعد السريع في المنجم يحتاج إلى أكثر من ساعة كي يصعد إلى سطح الأرض! ووصل الرقم عينه إلى 3000 متر في كندا. وفي أوروبا، وصل الحفر إلى 1500 متر في فنلندا والسويد، و1200 متر في بولونيا. وبدأت إحدى الشركات في جنوب أفريقيا بحفر منجم للذهب بهدف الوصول إلى عمق 5000 متر، لتحصل على صخور تفوق نسبة الذهب فيها 25 غراماً في الطن. ويضيف كريسمان أيضاً أن الفرص والثروات المتبقية لا تزال هائلة، خصوصاً مع احتساب أعماق البحار التي تشكل أكثر من ثلثي مساحة الكوكب، لكن صعوبة استثمارها تطرح تحديات تقنية هائلة ومسائل بيئيّة معقدة.

منابع القلق

إضافة إلى تكلفة البحوث والتنقيب، تزيد كلفة تأسيس بئر جديدة ووضعها في مرحلة الإنتاج، على 400 مليون دولار، وفق كريسمان دوماً. والأرجح أن المستثمرين الذين يأتي معظمهم من الغرب، لن يقامروا بأموالهم في بلاد مضطربة أمنياً أو سياسياً أو لا تتيح لهم قوانينها التسهيلات المطلوبة والربح المنشود. إذ أن اكتشاف ثروة جوفيّة معيّنة لا يشكّل سوى نقطة البداية لعملية اقتصادية طويلة، توظّف فيها رساميل كبيرة، وتحتاج متابعتها إلى تطوير قوانين البلد المضيف ولاستقرار أمني وسياسي. مع تطوّر الحضارة البشريّة، وعلى رغم التقدّم في عالم التكنولوجيا، تبقى البشريّة بحاجة ضروريّة إلى موارد الطبيعة، ومكوّنات القشرة الأرضيّة، والمياه الصالحة للشرب، ومصادر الطاقة، والتنوع البيولوجي والموارد المعدنيّة. يأتي معدن النحاس في المقدّمة، إذ يقدّر الباحثون أنه بحلول العام 2050، سيكون على البشرية أن تنتج من النحاس في أكثر ما أنتجته في تاريخها السابق بأكمله. وينطبق الوصف عينه على كثير من المواد الأوليّة المعدنيّة. يكفي تذكّر أنّ السيّارة العاديّة تحتوي 25 كيلوغراماً من النحاس، وفق معايير العام 2013 عندما كانت صناعة السيارات تستهلك 6 في المئة من إنتاج النحاس عالميّاً.

ويقدّر بعض الخبراء أنه بحلول العام 2030، ستحتوي كل سيارة على 50 كيلوغراماً من النحاس لإنتاج الكهرباء والمحركات الكهربائيّة، وستستهلك صناعة السيارات 9 في المئة من إجمالي إنتاج النحاس.

في ذلك الصدد، يجدر التنبّه إلى أنّ الاحتياط العالمي من النحاس ليست بلا حدود، وكذلك الحال بالنسبة للنفط. ونظراً إلى الحرارة المرتفعة في باطن الأرض، يستحيل إيجاد تلك الموارد أبعد من أعماق معينة تحت سطح الأرض. وحتى إذا وجدت، فستكون من نوعيّة رديئة كما أن استخراجها يمثّل عملية غير اقتصادية بتاتاً. في المقابل، يطمئن كريسمان إلى أن الموارد والثروات المدفونة في أول 3 كيلومترات من قشرة الأرض لا تزال كافية لخدمة 9 بلايين نسمة من البشر، لعقود عدّة.

تعليقات

التعليقات مغلقة.

+ -
.