«النازي» غونتر غراس روائي النضال الإنساني

كان الكاتب غونتر غراس الذي رحل صباح أمس الإثنين عن سبعة وثمانين عاماً، ظاهرة فريدة في الأدب الألماني والعالمي، كما في النضال السياسي والانتماء الإنساني والمعارضة الديموقراطية. شخصية تقاطعت فيها شخصيات عدة: روائي وكاتب مقالات وشاعر وفنان، اشتراكي وليبرالي ويساري على طريقته، غرق أيام الفتوة في وحول النازية ثم ثار عليها وهجاها بعد الجرائم التي ارتكبتها، وعندما سقط جدار برلين عارض الوحدة الألمانية الجديدة، وذريعته «الحفاظ على الإرث الاشتراكي للجمهورية الألمانية الديموقراطية» على رغم انتمائه إلى الجمهورية الغربية.

لا ينفصل أدب غراس الروائي عن نضاله السياسي، وهو بصفته كاتباً ملتزماً أعاد النظر في مفهوم الالتزام، جاعلاً من السياسة حافزاً أدبياً ومن الأدب حافزاً على مواجهة السياسة في مفهومها الرحب، ومرسخاً مقولته الشهيرة «الكاتب هو الضمير النابض للشعب». وراح عبر الكتابة ينقل النواحي المنسية للتاريخ والذاكرة، منتصراً للمهزومين والمهمشين والمقموعين ولكن من غير تجهم وأسى، بل عبر السخرية الحادة والواقعية المشرعة على الأسطوري و «الباروكي». ولعل هذا المزيج الذكي والمتقن هو ما وسم أعماله الروائية ورسّخ مكانته في الحركة الروائية العالمية الى جانب غبريال غارسيا ماركيز وخوسيه ساراماغو وسواهما. وقد تكون رواية «الطبل» التي صدرت عام 1959 خير نموذج لفنه الروائي الذي يتداخل فيه الواقعي والتاريخي والأسطوري أو الخرافي، من خلال حكاية الفتى الخارق الذي يدعى «أوسكار» وما يعيش من وقائع رهيبة. وكانت روايته هذه أولى ثلاثيته الشهيرة التي عرفت بـ «ثلاثية دانتزيغ»، وتلتها روايتان أخريان هما «الهر والفأر» (1961) و «سنوات الكلاب» (1963). وفي هذه الثلاثة عاد غراس الى سيرته الشخصية وسيرة ألمانيا ليستخلص منهما مادة روائية يتلاحم فيها الشخصي والوطني، أو العام. إلاّ أن هاجس السيرة الذاتية ظل يلاحق غراس، فمضى في نبش ماضيه الذي هو جزء من تاريخ ألمانيا الحافل بالتحولات والتناقضات والصراعات. هكذا أصدر غراس عام 1999 كتابه «مئويتي»، وألحقه بجزء ثان عنوانه «مشية السرطان» (2002)، وفيهما أطلق العنان لذكرياته مشفوعة بمقدار من التخييل والسرد البارع. لكنّ الصدمة الكبيرة التي أحدثها غراس كانت في إصداره كتابه «أثناء تقشير البصل» عام 2006، وفيه يكشف للمرة الأولى عن انتمائه في الخامسة عشرة من عمره الى حركة الشبيبة الهتلرية ثم التحاقه في السابعة عشرة بـ «فرقة الوحدات النازية»، وهي من أخطر المنظمات التي أنشاها النازيون سياسياً وعسكرياً. وما أن صدر الكتاب حتى أثار عاصفة من الاستنكار والشجب، وكيلت لصاحبه تهمة اللاسامية . شاء غراس أن يعترف بهذا «الإثم» الذي ارتكبه في فتوته ليتخلص من أثره عليه ويتحرر من ربقته وعذاب الضمير هذا، خصوصاً أن انتماءه ذاك تمّ قسراً في ظل انتشار النازية بعد خروج ألمانيا مهزومة من الحرب الأولى.

كانت حياة غراس حافلة بالصدمات، نظراً إلى جرأته والتزامه السياسي الحر ونزعته الديموقراطية. في العام 2006 بلغت جرأته شأوها عندما اعترض على الرسوم المسيئة للنبي إبان الحملة التي قامت حينذاك، وتحدث علانية عن «عنجهية الغرب» واحتقاره الثقافة الإسلامية، ولم يتوان من ثم عن إدانة الدولة التركية وما ترتكب من مجازر ضد الأكراد، مطالباً إياها أيضاً بالاعتراف بالمجازر التي ارتكبت ضد الشعب الأرمني في العام 1915 بغية إنهاء هذا الملف المخزي. ودافع عن صديقه أورهان باموق أكثر من مرة، لاسيما عندما أحيل على المحكمة جراء موقفه المؤيد للأكراد والأرمن. أما «الخبطة» الكبيرة، فتمثلت في القصيدة التي كتبها غراس عام 2012 وعنوانها «ما ينبغي أن يقال»، وفيها هاجم إسرائيل، متهماً إياها بتخريب السلم الأهلي عقب حملتها حينذاك ضد إيران وتهديدها بهجوم نووي. ودان غراس في القصيدة الرهيبة التي نشرت بالألمانية والإيطالية والإسبانية سياسة إسرائيل العنصرية ضد الشعب الفلسطيني، مذكراً إياها بجرائم النازية التي ارتكبت ضد اليهود.

لم يكن غونتر غراس غريباً عن العالم العربي، زار مدناً عدة، واستنكر الحرب الأميركية على العراق، وقصد اليمن أكثر من مرة. وفي العام 2002 لبى دعوة إلى اليمن للمشاركة في لقاء بعنوان «في البدء كان الحوار»، واغتنم الزيارة ليجوب صنعاء وعدن وقد بهرته مدينة حضرموت و «ناطحات سحابها الأولى في التاريخ» كما قال. وعندما قرر رئيس جمهورية اليمن علي عبدالله صالح منحه «وسام الثقافة والأدب» اشترط غراس عليه السماح للكاتب وجدي الأهدل بالعودة إلى اليمن، فوافق صالح للفور وأصدر قراراً يسمح بعودة هذا الكاتب المنفي والملاحق جراء كتابه «قوارب جبلية».

+ -
.