«الوضع ممتاز… ثلاث وجبات ولا بعث هنا ولا داعش»

غادرت برلين نادماً على ذهابي إليها. دمغتني الرحلة بحزن عميق لا استقالة منه. خشيت أن يكون مصير السوري نموذجاً لمصير عرب كثيرين. خفت أن تكون سورية تبدّدت هي الأخرى مع من تبدّدوا من أبنائها. وأن تكون مناطقها تحوّلت «قوارب موت» تغدر بركابها. شعرت بالخوف لأن سورية الموحدة والمتعددة لن تموت وحدها إذا كان قدرها أن تموت. وشعرت كعربي بالخجل والعار حين قال لي لاجئ سوري: «حين وصلت إلى ألمانيا شعرت للمرة الأولى بكرامتي كإنسان».

غادرت برلين نادماً. ما أقسى التحديق في عيون الهاربين من أوطانهم. في عيونهم انكسار عميق وشعور فادح بالخسارة. خسروا أحباء وأبواب الخسائر مشرّعة. خسروا السقف الذي كان يردّ قسوة الشتاء وقسوة الصيف. خسروا القرية وخسروا الوطن معها. انكسار وحزن وغضب. (للمزيد)

كان السوريون يعتقدون بأن بلادهم قوية وبارعة ومتماسكة. لم يخطر ببالهم أنها ستتشلّع وعلى نحو أخطر بكثير مما عاشه جارهم لبنان. لم يصدّقوا أن النسيج الوطني سيتمزّق بهذه السرعة. صحيح أن القسوة ليست زائراً جديداً. لكن معاقبة فرد تختلف تماماً عن معاقبة مدن وبلدات ومناطق. كانوا يعتقدون بأن سورية لاعب أساسي على مسرح المنطقة. فجأة شاهدوها ملعباً للتدخلات والمليشيات. شاهدوا انحسار دور السوريين على أرضهم وتحوّلهم وقوداً في نزاعات أكبر منهم.

ليس بسيطاً أن يخلع المرء بلاده كمن يخلع قميصاً مبقّعاً بالدم، وأن يستقيل مرغماً من وطنه، وأن يسلّم نفسه للمهربين وتجار «قوارب الموت»، وأن يقرع لدى وصوله إلى البر أبواب الأسلاك الشائكة، والدول الخائفة أو المتذمرة. من حسن الحظ أن «ماما مركل» وفّرت وطناً للمطرودين من أوطانهم.

هنا ألمانيا، هنا يلقي السوريون بأنفسهم وأطفالهم.

المشهد فظيع. سألت الشاب السوري الهارب عن وضعه فأجاب: «ممتاز ثلاث وجبات يومياً ونوم بلا خوف ولا بعث هنا ولا داعش». ما أقسى أن يبتهج سوري بالوجبات الثلاث على رغم خسارة الجذور وملاعب الطفولة. يتدخل شقيقه الذي رافقه في رحلة البحر والبر ليقول: «علمونا أن نكره هذه البلدان لأنها ليست من ديننا أو قوميتنا. سأقول لك صراحة: «الذل هنا أقل بكثير من الذل في الوطن، استقبلونا، هذه الثياب من عندهم، الرعاية الطبية متوافرة، الطعام مؤمّن ومفتوح، الغرف نظيفة، حتى الشرطي بينهم يتحدث إلى اللاجئ بلطف».

يروي أحد اللاجئين من منطقة دير الزور أنه شاهد الأشلاء الناتجة من تساقط براميل النظام وكان ذلك مروعاً. وشاهد لاحقاً في قريته سكاكين «داعش» تحزّ الأعناق. لم يعد يشعر أنه يعيش في سورية التي كان يعرفها. سلم نفسه للمهربين وغادر. جرّب أهوال البحر ووصل. لم ينسَ سورية ومستعد للعودة إلى منطقة لا تعيش في ظل النظام أو «داعش».

ضابط منشق يقول إنه هرب من مشهد الجثث. اتهم بمحاولة انشقاق. استدعاه زميله إلى غرفة التعذيب وكان عليه أن يمشي على الجثث وبقع الدم. نجا من الموت برشوة قدرها خمسة ملايين ليرة سورية.

روايات كثيرة عن قسوة النظام ووحشية «داعش». لكن معظم اللاجئين يعتقدون بأن النظام ساهم «في إطلاق هذا الوحش ليضع العالم أمام الخيار: إما أنا وإما داعش». يسخر كثيرون من الدعم الأميركي للمعارضة. ينتقدون قيادات المعارضات ويصفونها بأنها كانت «أقل بكثير من حجم الثورة». يحمل كثيرون على الدور الإيراني، وبينهم من يطالب الشعب اللبناني «بالاعتذار عما يرتكبه حزب الله رداً لجميل من فتحوا له قلوبهم وبيوتهم في حرب 2006».

لا يستبعد بعض اللاجئين وقوع سورية في تقسيم موقت لبعض سنوات «لأن عودة سلطة الأسد إلى كامل سورية مستحيلة». بينهم من يقرّ بـ «أن النظام نجح في خطته لعسكرة الثورة وأسلمتها لإخافة دول المنطقة والعالم منها». ويؤكد بعض من وفدوا إلى المانيا أنهم سيتحيّنون الفرصة للعودة إذا توافرت منطقة آمنة «خالية من قوات النظام والإرهابيين المتعصبين».

ويعتقد بعض من وصل إلى ألمانيا بأن رحلة القوارب ما كانت ممكنة لولا غضّ النظر التركي الرسمي، وبينهم من يزعم أن الرئيس رجب طيب أردوغان «أراد معاقبة الأوروبيين لأنهم لم يساعدوه في إقناع أميركا بفرض منطقة آمنة، وألقوا عبء اللجوء السوري على دول الجوار».

+ -
.