بانتظار الردّ الفلسطيني غير المسبوق

في موقف لافت، وفريد من نوعه، هدّد المتحدّث باسم الرئاسة الفلسطينية بالرد «بشكل غير مسبوق» على إعلان إسرائيل اعتزامها بناء 1500 وحدة سكنية استيطانية جديدة، تعبيراً عن ممانعتها تشكيل حكومة توافقية بين حركتي «فتح» و»حماس».

بيد أن إسرائيل، كما نعلم، لا تحتاج لأي مبرّر أو تغطية لتعزيز أنشطتها الاستيطانية إذ أنها لم تتوقف عن ذلك يوماً، لا سيما منذ توقيعها اتفاق أوسلو مع القيادة الفلسطينية، قبل عقدين، وفي ظل حكومات العمل أو «ليكود»، وإبان الهدوء أو المواجهات، مع المفاوضات أو من دونها. ذلك أن الدولة العبرية تتصرّف إزاء الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، باعتبارها جزءاً من إسرائيل، وأنها «تتكرّم» على الفلسطينيين بالسماح لهم بإقامة كيان سياسي لهم فيها. والحقيقة أن المسؤولية في ذلك تقع على القيادة الفلسطينية التي وقّعت على اتفاق أوسلو على رغم أنه لم يعرّف إسرائيل كدولة احتلال، ولا الضفة والقطاع كأراض محتلة، كما أنه لم يبتّ بمسألة الاستيطان، إضافة إلى مسائل جوهرية أخرى. وباختصار فقد تم التعاطي مع الأمر، حينها، كأن الأراضي المحتلة هي بمثابة أراض متنازع عليها بين طرفين، وحقّين. وربما أن هذا يفسّر اعتبار أوري ارييل وزير الإسكان الإسرائيلي (من حزب «البيت اليهودي» القومي ـ الديني) أن «من حق إسرائيل وواجبها أن تبني مستوطنات في كل أرجاء البلاد».

معلوم أن إسرائيل لم تبد طوال عقدين من عمر مسيرة التسوية ما يفيد باحتمال تخليها عن الاحتلال، إذ ظلت تشتغل على تعزيز وجودها العسكري والاستيطاني، في الضفة، مختصرة قضية التسوية بالتحرّر من عبء السيطرة المباشرة على الفلسطينيين، والتخلص من أكلافها الأمنية والاقتصادية ومن تبعاتها السياسية والأخلاقية، مع الاحتفاظ بالأرض والموارد والهيمنة الأمنية والاقتصادية. الأخطر من ذلك أن إسرائيل تتصرّف في هذه الأراضي براحة وحرية، كأن السلطة غير موجودة، أو كأنها مجرد خيال «مآتة».

ففي الشهر الماضي وحده، مثلاً، وبحسب تقرير نشرته الوكالة الفلسطينية للأنباء («فا») فإن القوات الإسرائيلية نفّذت حوالى 100 عملية إطلاق نار واعتداء على الفلسطينيين داخل مدنهم وبلداتهم، و239 عملية اعتقال، و41 حالة اعتداء ودهس واقتلاع أشجار وإتلاف مزروعات نفذها مستوطنون، و110 حالات مصادرة لممتلكات وتسليم إخطارات بهدم منازل أو منشآت. أما بالنسبة إلى الأعمال الاستيطانية ففي الشهر الماضي طرح مخطط لإنشاء «حديقة وطنية» على أراضي شرق القدس المحتلة على أرض مساحتها حوالى 700 دونم، وتم الترخيص لبناء 50 وحدة استيطانية في مستوطنة جبل أبو غنيم المقامة على أراضي بيت لحم (إبان زيارة البابا!)، كما أن ثمة حديثاً عن اعتزام إسرائيل بناء كنيس «جوهرة إسرائيل» في قلب القدس القديمة، وعلى بعد 200 متر غرب المسجد الأقصى.

القصد أن الوضع الذي تأسست عليه السلطة كان خاطئاً، وقد فاقم من مخاطره اضطرار السلطة إلى الاعتماد على الدول المانحة، لتغطية موازناتها ومرتبات موظفيها، الذين بات عددهم يناهز على 200 ألف (بعد استيعاب 40 ألف من موظفي حكومة «حماس» في غزة)، وهذا الأمر لا يهدد فقط استقلالية القرار الفلسطيني، وإنما يهدد سلامته أيضاً.

ولعل هذا كله ما يثير الاستغراب من مضمون التصريح الفلسطيني المذكور في شأن «الرد غير المسبوق»، لا سيما أن السلطة لا تملك أوراق قوة، وهي لم تعمل شيئاً يذكر لتهيئة ذاتها وشعبها، لخيارات وطنية بديلة، بل إنها في مواقفها وشكل إدارتها لأحوالها لا تبدو راغبة في ذلك أصلاً.

وهذا يعني أن القيادة الفلسطينية تستطيع أن تغيّر من المعادلات القائمة، في علاقتها الخاسرة والمهينة مع إسرائيل، لكن ذلك يتطلب منها هي بالذات القيام بخطوات غير مسبوقة، ربما يكمن أولها بوضع حد للعبة التفاوضية، التي باتت بمثابة مهزلة، ومجرد ستار يحجب واقع إسرائيل كدولة استعمارية وعنصرية. كما يتطلب الأمر تغيير واقع السلطة، من كونها سلطة تتعايش مع الاحتلال إلى سلطة تدير أحوال شعبها، وتنظم كفاحه من أجل استعادة حقوقه. وبالتأكيد فإن هذا يشتمل على إنهاء التنسيق الأمني مع إسرائيل، لأنه مشين أولاً، إذ لم يسبق أن قامت حركة وطنية بالتنسيق الأمني مع المستعمر. وثانياً، لأنه مكلف جداً، ويفضّل تحويل الموارد المخصصة له إلى مجالات أخرى تخصّ تنمية المجتمع. وثالثاً، لأنه تنسيق من طرف واحد، إذ أن إسرائيل، كما ذكرنا، لا تأخذ إذناً من أحد في مداهماتها لبيوت الفلسطينيين أو مدنهم وقيامها بعمليات إطلاق نار واعتقالات وهدم بيوت. ورابعاً، لأن أجهزة الأمن الفلسطينية مفروض أن تتركز مهمتها في الحفاظ على حياة الفلسطينيين، وعلى الاستقرار الأمني في مناطقهم.

وباختصار فإن القيادة الفلسطينية مطالبة بالمبادرة لوضع حد، ومرة واحدة، لواقع الاحتلال الإسرائيلي المريح والمربح، وغير المسبوق، وهو ما لا تفعله بالنظر إلى ارتهانها للعبة التفاوضية، وتكلّس أحوالها، واعتمادها في مواردها على الخارج.

أيضاً لا يوجد ما يوحي بوجود هكذا مبادرة لأن الثقافة السياسية، التي تدير هذه القيادة الصراع على أساسها، هي امتداد للثقافة التي أسست لاتفاق أوسلو، والتي تنطوي على إثبات حسن السلوك إزاء المحتل، وتأكيد التماثل، وربما التعايش، معه.

في هذا السياق، مثلاً، يمكن فهم حديث الرئيس أبو مازن، أمام 200 من نشطاء السلام الإسرائيليين (في مقره في رام الله في 29 أيار/ مايو الماضي)، الذي تضمّن اعتبار التنسيق الأمني مع إسرائيل أمراً مقدساً! وتأكيد أبو مازن أن لا تنازل عن ذلك، كأنه يصدّق أن أجهزة أمن السلطة هي التي تحمي إسرائيل، أو كأن هذه تقبض اللعبة حقاً! وتضمن حديثه أيضاً، تشجيع «التطبيع»، ومعارضة حل الدولة الواحدة، بديلاً لحل الدولتين، ومخاطبته الإسرائيليين قائلاً: «الجانبان عانيا الكثير ودفعا أثماناً غالية… عانيت كثيراً في المنفى، وأعرف أنه مثل ما عانيت، أنتم عانيتم أيضاً». وهي تصريحات تنطوي على إيحاءات بقبول الرواية الإسرائيلية للنكبة، وتصوير الصراع الجاري كأنه بين حقين أو طرفين متساويين، وهو أمر مستغرب، ولا يفيد، بل إنه يسهم في خلق ثقافة سياسية مشوّهة، تتعايش مع الاحتلال والظلم وضياع الحقوق، فضلاً عن أنها تثير مشاعر الإحباط والضياع عند الفلسطينيين، بدلاً من وضعهم في صورة التحديات التي تواجههم.

ما يثير الاهتمام هنا، أيضاً، هو تحول مركز القيادة الفلسطينية إلى مقر لإلقاء المحاضرات، على هذه المجموعة أو تلك من الإسرائيليين، ذلك أن هذه ليست مهمة الرئيس، ولا مقر القيادة هو المكان المناسب لذلك.

وإذا كان من المفهوم والمشروع العمل في أوساط الإسرائيليين بغرض جلب تعاطفهم مع حقوق الفلسطينيين وفك ارتباطهم بالصهيونية، وبناء قواسم مشتركة معهم، على هذا الأساس، فإن هذا لا يستقيم مع الدعوة إلى التطبيع مع إسرائيل، وفتح علاقات اقتصادية معها، بدلاً من معاقبتها وعزلها ونزع شرعيتها. كما أن هذا الأمر لا يفترض التنازل عن الرواية الفلسطينية، وتقويض قيمتي الحقيقة والعدالة فيها، والخضوع لمنطقة الغلبة. وفوق هذا فإن السلام بين دولة وأخرى لا يشترط إقامة علاقات قائمة على التعاون الاقتصادي أو على الحب والوداد، فهذا شأن آخر. وأخيراً فإن الإسرائيليين بحاجة ليعرفوا عن معاناة الفلسطينيين جراء النكبة، وعن معنى التشرد واللجوء والحرمان من الوطن والهوية، وعن مظالم الاحتلال وهدم البيوت وجرف المزروعات وسياسة الاعتقال والقتل، أكثر من حاجتهم إلى دروس عن اضطهاد أجدادهم في أوروبا، أو عن ظروف «المحرقة»، فهذه يعرفونها ويحفظونها عن ظهر قلب.

وكما ذكرت، فإن مشكلة القيادة الفلسطينية أنها فقدت المبادرة، وأنها لا تعمل على تغيير الواقع، فبينما ينشغل الرئيس الفلسطيني بإلقاء المحاضرات، أو باللقاء مع هذه المجموعة أو تلك من الإسرائيليين، فإن بنيامين نتانياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية يمهد الاجواء لخلق امر واقع، يتمثلّ بفرض حل احادي الجانب، بتحويل الضفة إلى غزة أخرى.

واضح أن إسرائيل تشتغل على الفصل الأحادي، وترك الفلسطينيين يتدبرون أمرهم في مدنهم، بعد تنفيذ انسحابات محدودة، أو إعادات انتشار، بحسب التعبير المتداول في نص اتفاق أوسلو، وتالياً جعل الضفة وغزة بمثابة كانتونين منعزلين، و»مستقلين»، لكن في ظل التحكم والحصار والهيمنة الإسرائيلية. أي باختصار نحن أمام كيان محاصر، إزاء الخارج، وحكم ذاتي محدود إزاء الداخل.

قصارى القول، الفلسطينيون حقاً بحاجة إلى رد غير مسبوق.

+ -
.