بوتين 2015 لن يكون بوتين 2014 و«الأطلسي» سيواجه خطط تغيير أوروبا

ظل الحلف الأطلسي يتابع بصمت مغلف بالقلق والتوتر الحذر طيلة الأشهر الأولى لاندلاع النزاع في أوكرانيا، ومن ثم تحوله إلى أزمة هزت العلاقات المتأرجحة أصلاً بين روسيا والاتحاد الأوروبي وحليفته الرئيسة الولايات المتحدة، وذلك إثر قيام الرئيس بوتين بإرسال قواته العسكرية لاحتلال شبه جزيرة القرم وقضمها وضمها إلى الاتحاد الروسي، ومسارعته إلى تحريض جماعات محسوبة على الكرملين في أوساط الأقلية الناطقة بالروسية في الأجزاء الشرقية من أوكرانيا وتسليحها وتمويلها ودعمها لوجستياً وبالمعلومات الاستخباراتية ودفعها لإعلان الحرب على كييف، بل وحتى الذهاب إلى الأبعد، بزجه جنوداً روساً يرتدون بزات الانفصاليين فضحت وثائقهم التي لوح بها الرئيس الأوكراني بورشينكو، الدورَ المباشر والمتصاعد لموسكو في النزاع الدموي المتواصل الذي تسبب بسقوط آلاف القتلى والجرحى وفق بيانات الأمم المتحدة.

أثارت عدوانية بوتين وتحديه الغرب إلى درجة استخدامه لغة فجة وبذيئة في الخطاب المتبادل مع الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، مخاوف جدية لدى زعماء دول البلطيق المجاورة التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي السابق، ارتفع منسوبها مع تعمد روسيا القيام باستفزازات حدودية وانتهاك طائراتها الحربية المجال الجوي لهذه الدول، فلم تنجُ فنلندا ولا السويد من هذه الأعمال، التي أدت في النهاية إلى تحريك الدم المتجمد في جسد الحلف الأطلسي، الذي كان وزير الدفاع الأميركي الأسبق روبرت غيتس قد حذر قادته في خطاب الوداع عند مغادرته عمله قبل أكثر من سنتين، من أن استمرار اعتماد دوله الأعضاء في حماية أمنها القومي على الولايات المتحدة يهدد الحلف بمستقبل يمكن أن يكون «قاتماً» إذا لم يقم بتبديل جذري لعقيدته العسكرية ويسارع إلى القيام بزيادة الإنفاق العسكري وتحقيق الاستثمارات العسكرية الضرورية والملحة».

سبات الأطلسي

احتاج الحلف كما يبدو لكي يستيقظ من سباته الطويل، لأن يهز بوتين كيانَه ويتحداه في العمق وفي عقر داره، باحتلال القرم وقضمها وتحريض المجموعات الموالية له في أوكرانيا على الانفصال وإعلان قيام دولتين جديدتين من طرف واحد، مثلما كان فعل قبل سنوات في جورجيا ومولدافيا، ومن ثم عرقلة المندوب الروسي في مجلس الأمن الدولي إصدار قرار يدين الانفصاليين الذين تريدهم موسكو طرفاً محورياً في المفاوضات، لإسباغ مشروعية قانونية على «جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك الشعبيتين»، فيما «الانفصاليون» يحشدون قواهم لتوسيع سيطرتهم على مزيد من الأراضي الأوكرانية. الآن وبعد كل هذه النكسات التي منيت بها كييف، والفشل المهين للغرب بشكل عام في الصدام بالوكالة مع روسيا على الأرض الأوكرانية، قرر الحلف -حفظاً لماء الوجه- أن يبرز عضلاته في وجه بوتين، معلناً تبنيه استراتيجية جديدة مغايرة للتي كان تبناها في قمته التي عقدها في شيكاغو لمناسبة ذكراه الستين، وتضمنت عملية إصلاح شاملة في قواته المسلحة في إطار استراتيجية جديدة حملت عنوان «الدفاع الذكي» (Smart defence)، إذ لم يعد من الممكن، وفق الخبراء الأطلسيين، العمل بالأساليب القديمة لمواجهة التحديات القائمة والتهديدات والمخاطر المحتملة مع عودة الحرب الباردة بعد أكثر من عقدين ونصف على انهيار الاتحاد السوفياتي، والتجاذب المحتدم مع روسيا في بؤر عديدة في العالم، أخطرها بالنسبة إلى الأمن الأوروبي هو الأزمة في أوكرانيا، التي تحولت إلى حرب أهلية لم يكن يخطر على بال أحد في أوروبا، حكومات وشعوباً، أن حدوثها أمر ممكن في القرن الواحد والعشرين.

رأس الحربة ومراكز القيادة الستة

ما حصل في أوكرانيا دفع الأطلسي إلى تبني استراتيجية جديدة تقضي بتوسيع تواجده في دول منطقة أوروبا الشرقية، واتخذ أول قرارته في هذا الاتجاه بتسريعه تنفيذ الخطة الجديدة للعمل التي أقرها بالإجماع وزراء دفاع الدول الـ28 الأعضاء في اجتماعهم الأخير أوائل الشهر الجاري في بروكسل. وتقوم الاستراتيجية الجديدة على تشكيل قوة للتدخل السريع قوامها 5 آلاف عسكري سيرتفع عددها بشكل تدريجي إلى 30 ألف رجل، يمكن إرسالهم أو نشرهم في فترة قصيرة في مناطق النزاعات داخل الحدود الأوروبية، في حال تعرض أي دولة عضو لعدوان خارجي، أو إلى مناطق خارجها إذا ما شعر الحلف بأنها تشهد نزاعات من شأنها أن تشكل في مرحلة ما تهديداً للامن القومي الأوروبي، ولهذا الغرض قرر إقامة 6 مراكز للقيادة والتحكم في كل من بلغاريا ورومانيا وبولندا وأستونيا وليتوانيا ولاتفيا، سيعمل في كل واحد منها 40 عسكرياً يتولى جميعها مهام تنسيق وتنفيذ كل النشاطات والأعمال المرتبطة بتأمين السياسة الدفاعية المشتركة في حال تعرض أي دولة عضو في الحلف لعدوان خارجي، وبحيث تتولى وترتب تسهيل انتشار قوات (رأس الحربة) وهو الاسم الذي ستحمله قوة الانتشار السريع الجديدة. وستبدأ هذه المراكز أعمالها في 2016. وقالت مصادر دفاعية بلغارية لـ «الحياة»، إن هذه الخطوة هي واحدة من مجموعة خطوات أخرى لاحقة ستتخذ على المستوى الأطلسي في إطار زيادة تواجد الحلف في المنطقة لتأمين رد سريع على أي تحركات عدوانية من جانب روسيا، ليس فقط في أوكرانيا وحدها وإنما في دول أخرى، وبشكل خاص الدول الأعضاء والحلفاء في برامج الشراكة من أجل السلام والأمن.

وقال الأمين العام للحلف ينز شتولتنبرغ: «سنقرر حجم وتشكيلة القوة الجديدة التي ستحمل اسم (رأس الحربة)، والتي ستتدخل في مناطق أخرى بشكل سريع لمواجهة اضطرابات، بما فيها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا». وأضاف: «هذه القرارات تندرج في إطار تحديث «قوة الردع السريع» التي أنشئت في 2003 لكنها اتصفت بالبطء الشديد ومحدودية الفعل». وقال وزير الدفاع التشيكي مارتين ستروبنتسكي، إن «هذه القوة ستكون بمثابة جهاز عسكري متعدد الاستخدام، مرن ومتكيف ومتناسب مع خصوصيات الصراعات في هذه المنطقة أو تلك، والتي باتت تندلع بسرعة كبيرة، فبعد أن كانت النزاعات في السابق تحتاج إلى أشهر قبل أن تنتقل من المرحلة السياسية والنظرية إلى الواقع الفعلي، نجدها اليوم تنشب وتتسع وتتعمق عسكريا في غضون أيام معدودة».

حدث أوكرانيا

ولكي لا تشكل هذه القوة استفزازاً لروسيا، ستبقى وحداتها البرية في أراضي الدول الغربية، ولكنها ستشارك في تدريبات مع جيوش دول الاتحاد السوفياتي السابق». وقال مصدر أطلسي رفيع لـ «الحياة»، إن «ثلاث دول ستتولى تنسيق تحركات هذه القوة، وستؤمن إحداها (احتياطاً) لمدة عام واحد إمكان جهوزية قواته خلال مهلة قصيرة للغاية لا تتعدى يومين فقط لطلائع القوات، إلى أسبوع للوحدات الأخرى»، فيما «الدولتان الأخريان يجب عليهما أن تؤمنا إمكان التحاقهما بالقوة خلال فترة تتراوح بين أربعة وستة أسابيع». وكانت بريطانيا أعلنت أنها ستتولى قيادتها العام 2017، وتضع تحت تصرفها نحو ألف رجل وثلاث مقاتلات من طراز تايفون لضمان الأمن الجوي لدول البلطيق». وقال معلق الشؤون الديبلوماسية والعسكرية في ( بي بي سي) جوناثان ماركس، إن تشكيل «رأس الحربة» يعكس معطى في غاية الأهمية، وهو أن القيادتين السياسية والعسكرية للناتو تنظران إلى احتلال روسيا القرم ومصادرتها وإلحاقها بالاتحاد الروسي ومن ثم تدخلها السافر في الصراع الدائر في الأجزاء الشرقية من أوكرانيا، كحدث وتطور خطير أكبر بكثير من أزمة موقتة بين موسكو والغرب». وفي هذا السياق، ألقى نائب الأمين العام للحلف ألكسندر فيرشبو، وهو سفير أميركي سابق في موسكو، كلمة خلال اجتماع للحلف، استخدم فيها للمرة الأولى عبارات غير مألوفة ديبلوماسياً لتحديد رؤية الناتو لما يحصل في أوكرانيا، مثل: «إن العدوان الروسي على أوكرانيا ليس حدثاً معزولاً أو منفصلاً، ولا بد من أنه سيؤدي إلى تغيير جذري في كل تركيبة وهيكلية الأمن الأوروبي». وأقر مصدر رفيع في القيادة الأطلسية في حديث لأسبوعية «كابيتال» الصادرة في صوفيا «بعدم القدرة على التنبؤ بالشكل الذي ستتطور إليه الأزمة الأوكرانية»، وقال: «سادت الآمال بإمكان أن تؤدي العقوبات ضد روسيا والانخفاض الدراماتيكي في أسعار النفط في الأسواق العالمية، إلى إرغام بوتين على إعادة النظر بسياساته، إلا أن مثل هذا الأمر لم يحدث»، وفي الواقع فإن غالبية الخبراء والمحللين الغربيين ومنذ البداية كانوا مقتنعين باستحالة حصول مثل هذا التراجع الديبلوماسي في السياسة الخارجية الروسية، كما استبعدوا إمكان تخلي بوتين مغامرته في أوكرانيا، مهما كانت أثمانها باهظة على روسيا والكرملين». وذهب القائد الأعلى للقوات الأطلسية الجنرال فيليب بريدلاف إلى أبعد من ذلك، بتحذيره من أن بوتين قد يعمد إلى احتلال إقليم ( بريدنوستروفيه) في مولدافيا، الذي سبق وأعلن انفصاله عن البلاد، وظل قادة الجمهورية الجديدة المعلنة من طرف واحد يكررون طلبهم من الزعماء الروس دمج دولتهم في الاتحاد الروسي». ويشكل الإتنيون الروس في الإقليم نسبة قدرها 30 بالمئة من عدد سكانه البالغ 500 ألف نسمة، ويقع الإقليم على الجانب الشرقي من نهر دينستر في البلاد.

واشنطن في الجبهة الأمامية

من جهة أخرى، وجدت الولايات المتحدة ضرورة في التحرك المنفصل عن الحلف الأطلسي لتعزيز المواجهة مع روسيا في الدول الشرقية التي تمردت على الاتحاد السوفياتي وقادت ثورات أطاحت بأنظمتها الشيوعية قبل أكثر من 25 سنة، وذلك بعد أن أيقنت أن بوتين يسعى لتقويض أنظمتها عبر إفساد نخبها وقواها السياسية، وزيادة نفوذ التيارات القومية المتشددة المعادية للمشروع الأوروبي والأطلسي عبر ضخ الأموال إلى قادتها الشعوبيين وتكليفهم بشحن النزعات المعادية لأميركا في مجتمعات دولهم، وكذلك العمل الدؤوب والمدروس لتحويل اقتصاداتها مافياوية. وكان لافتاً للمتابعين تحول صوفيا مزاراً لكبار المسؤولين الغربيين من السياسيين والعسكريين الشهر الماضي، ففي غضون أسبوع واحد فقط، زار العاصمة البلغارية وزراء خارجية الولايات المتحدة جون كيري وبريطانيا فيليب هامند وأمين عام الناتو شتولتنبرغ ووزير خارجية النمسا سباستيان كورتس، ومن المتوقع -وفق معلومات حصلت عليها «الحياة»- أن يزور بلغاريا خلال الأيام المقبلة وزراء خارجية فرنسا والسويد وكندا، في تظاهرة لإظهار الدعم للحكومة الجديدة ذات التوجهات الغربية ولبرامجها الرامية للإفلات من النفوذ الروسي، لاسيما بعد اتهام بوتين صوفيا علناً في أنقرة خلال مؤتمره الصحافي مع أردوغان بإيقاف مشروع (ساوث ستريم) وتعطيله، خضوعاً لأوامر أميركية وأوروبية، وما أوحاه هذا الاتهام المباشر لدى المراقبين من خطوات انتقامية محتملة من جانب روسيا، لم تستبعد أوساط حكومية أن تبدأ بزعزعة الاقتصاد وإثارة احتجاجات اجتماعية لإسقاط التحالف الحكومي وزعزعة الاستقرار الهش أصلاً في البلاد. ولعل ما أثار انتباه المراقبين هو توجيه كيري خلال مؤتمره الصحافي الطويل الذي عقده بعد مباحثات مع نظيره البلغاري بويكو بوريسوف، وبشكل غير مألوف، تحذيراً واضحاً لروسيا بعدم التدخل في شؤون دول المنطقة، مشدداً على دعم واشنطن كل القرارات والخطوات التي تتخذها حكومة بلغاريا لتطوير المؤسسات الديموقراطية، وتحديث الاقتصاد، ومكافحة الفساد، وإصلاح المنظومة القضائية وتنويع مصادر الطاقة»، وهو ما ورد أيضاً على لسان هامند ونظيره النمساوي سباستيان كورتس. أما الأمين العام للناتو، فكانت تصريحاته أكثر ناريةً، إلى درجه إثارتها القلق في أوساط الرأي العام المحلي من أن أوروبا تقترب فعلياً من حرب شاملة مع روسيا، وذلك حينما أعلن عن اختيار بلغاريا مقراً لواحد من المراكز الستة للقيادة والتحكم التي سيقيمها الناتو في خمس دول أخرى ذات حدود مباشرة مع روسيا. وليس هذا فحسب، بل إن الخطط الأطلسية والأميركية توحي بتحويل بلغاريا ورومانيا دولتي مواجهة مع روسيا، وهو ما أكده المحلل الأميركي ديفيد همبسن في مقاله كتبها في «الإيكونوميست» الصادرة بالبلغارية. وتحدثت صحف بلغارية عن عزم الناتو إقامة قاعدة عسكرية في مدينة «شبلا» الواقعة على الساحل البلغاري من البحر الأسود، وهي لا تبعد سوى 400 كيلومتر من القرم، تضاف إلى القاعدة العسكرية الجوية الأميركية التي أقامتها واشنطن في مدينة «نوفو سيلو»، وهي أيضاً بالقرب من ميناء بورغاس على البحر الأسود. وترتبط بلغاريا مع الولايات المتحدة باتفاقية للتعاون العسكري وقعت العام 2005 لفترة 10 سنوات، وقابلة للتمديد تلقائياً.

وكان القائد العسكري البارز في الناتو الجنرال مارك شيسلر زار صوفيا في أواسط يناير الماضي، حيث أجرى وفق ما ذكرته جريدة (ستاندرت) مباحثات مع كبار المسؤولين العسكريين البلغار حول تفعيل آليات التعاون العسكري بين الجانبين، والتنسيق الثنائي لإجراء مناورات عسكرية مشتركة بين القوات الأميركية والبلغارية والصربية والرومانية داخل الأراضي البلغارية. وأبلغ مصدر عسكري بلغاري «الحياة» أن القائد العام للقوات الأميركية في أوروبا الجنرال بن هوجينز، سيصل بلغاريا الأسبوع المقبل للبحث في نشر حوالى 150 دبابة وعربة مدرعة في 6 دول أوروبية بحلول نهاية العام المقبل، لأغراض صنفت بمصطلح التدريب، وللاطلاع أيضاً على المواقع المقترحة من هيئة الأركان البلغارية التي ستؤوي عدة عشرات من هذه الآليات في بلغاريا. وتأتي هذه التحركات الأميركية والأطلسية لتطمين الدول الحليفة في أوروبا الشرقية ومنطقة البلقان من مخططات روسية تستهدفها تستنسخ التي حدثت -ولا تزال- في أوكرانيا، لاسيما أن تقريراً سرياً أعدته وكالات الاستخبارات الأوروبية أشار إلى خطط روسية لإثارة أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية في دول البلقان وأوروبا الشرقية، بهدف استثمارها ورقةً جديدة في الصراع مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ولإشغال العواصم الأوروبية الكبرى والولايات المتحدة بنزاعات جديدة في داخل أوروبا، وهو ما يفسر سبب قيام المستشارة الألمانية أنجيلا مركل بدعوة الرئيس بوتين إلى عدم إقحام منطقة البلقان في الصراع الدائر الآن حول أوكرانيا.

ووفقاً لمصادر ديبلوماسية أوروبية، فإن مركل نبهت الشركاء الأميركيين والأوروبيين إلى هذه المسألة، ودعتهم إلى اتخاذ إجراءات وقائية، لأن مثل هذا التطور سينعكس بشكل مباشر على الأمن الأوروبي. وبرأي المحلل في المجلس الأوروبي للسياسة الخارجية بيوتر بوراش، فإن «الأزمتين في أوكرانيا والشرق الأوسط، والأخيرة استفحلت مع بروز ( داعش) قوةً فعلية على الأرض، من شأنهما أن تقوضا أسس وأعمدة السياسة الخارجية الأوروبية المعتمدة خلال العشرين عاماً المنصرمة»، وقال لـ «الحياة» إن «ما يسعى إليه بوتين ليس فقط زعزعة وتقويض وحدة مواقف الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بالنسبة إلى السياسة الخارجية، ولكن إضعافه من الداخل». ورجحت المصادر نفسها أن يعمد بوتين خلال الأشهر المقبلة، إلى ممارسة المزيد من الضغوط على الزعماء الأوروبيين، عبر تقسيم القارة الأوروبية إلى شمال وجنوب». ورأى الخبير في الشؤون الروسية إيفان كرستيف، أن «قدرة بوتين على المناورة السياسية بدأت تضيق وتنحسر مع الدول المجاورة، وهو يعي أن عملية عسكرية واسعة النطاق في شرق أوكرانيا ستكون نتائجها خسائر بشرية كبيرة ومادية باهظة، فضلاً عن أنها ستقوض أسس الاتحاد الأوراسي الاقتصادي، الذي أعلن عن تشكيله أوائل يناير المنصرم، وذلك لأن العضوين الآخرين في هذه المنظومة، روسيا البيضاء وكازاخستان، أعربا بوضوح عن رفضهما أي مس بالحدود الدولية القائمة». والمثير أن حليف بوتين الأمين رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو، الذي يتلقى مساعدة مالية من روسيا قدرها بليون دولار سنوياً، فقد أعصابه وخرج بتصريح غريب وصف فيه السياسة الروسية في أوكرانيا بأنها «غبية». وبالتأكيد ستتجه جهود بوتين وتنصب نحو ممارسة المزيد من الضغوط على أوروبا في منطقة البلقان ودولها التي يمكن أن تتحول إلى بؤرة ساخنة تعتمل بالاضطرابات، على الرغم من أن لا أحد في الكرملين يؤمن بأن دولاً مثل ألبانيا أو البوسنة أو مقدونيا لديها أي رغبة في التخلي عن طموحها في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي واستبدالهما بالاتحاد الأوراسي، ولكنه -أي بوتين- يدرك جيداً في الوقت ذاته أن دول البلقان هي الحلقة الأضعف للدبلوماسية الأوروبية، كما يعرف أن المؤسسات المصرفية لهذه الدول هشة للغاية، وستنهار فور إيعازه للشركات الكبرى المرتبطة بروسيا بسحب أرصدتها المالية منها، وهو سيناريو ستنجم عنه انعكاسات كارثية مباشرة على آلاف المودعين من المواطنين، الذين سيخسرون مدخراتهم الشخصية، كما أن الشركات المحلية ستضطر هي الأخرى إلى وقف نشاطاتها التجارية والاقتصادية أو تعطيلها، ناهيك عما ستسببه من حركات احتجاجية داخلية ضد السلطات الحاكمة، وسوف لن تنجو الدول الأوروبية الأخرى من الحالة الناشئة، وستجد نفسها هي الأخرى أمام أوضاع تتهدد استقرارها السياسي والمالي والاقتصادي.

ووفق أستاذ العلوم السياسية في جامعة صوفيا مدير مركز الدراسات البلقانية والدولية البروفيسور أوغنيان منتشيف، فإن الاتحاد الأوروبي سيكون تحت وطأة هذه المتغيرات مضطراً إلى تحويل اهتمامه عن أوكرانيا إلى دول البلقان، وفي مقدمها البوسنة، التي قد يقرر الصرب فيها إعلان انفصال كيانهم الفيدرالي واستقلاله من طرف واحد، منبهاً إلى إمكان أن تدفع موسكو باتجاه إثارة التوترات في العلاقات الصربية– الألبانية، على خلفية اعتماد هذه الدول بالكامل على مصادر الطاقة الروسية وتأجيج الصراع مجدداً حول كوسوفو، لافتاً إلى أن هذه الدول جمعيها تعاني آفة تفشي الفساد بين نخبها السياسية، التي يرتبط بعضها بروسيا ويقيم مع شركاتها وأجهزتها الاستخباراتية شبكة مصالح معقدة للغاية يمكن أن تسخر في النهاية لتقويض الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في أوروبا».

 _________________________________________

* كاتب وصحافي عراقي مقيم في صوفيا

+ -
.