“بين موتين”: انتظار الجولانيّين بين وضعين مُؤَقَّتَيْن

z

 

المكان: “مقهى يافا” – مقهى ودكّان كتب في يافا. الزمان: مساء من أواخر شهر تمّوز (يوليو) 2018.

بدأ الناس بالتوافد تدريجيًّا إلى المقهى، رائحة قهوة عربيّة، حركة سريعة لتنظيم المكان وإعداد مساحة أكبر للكراسيّ، شاشة عرض كبيرة غطّت رفوف الكتب المعروضة للبيع، بعض الزوّار نجح في تناول المقلوبة والفلفل المحشيّ بالبرغل، وقبل بدء العرض، آخرون تجوّلوا بين الكتب، وثمّة من انتظر خارج المكان؛ إلى أن حان وقت عرض الفيلم “بين موتين” للمخرج السوريّ أمير فخر الدين. بدأ العرض، وتمامًا لحظة انتهائه وصل المخرج القادم من مجدل شمس، فتح باب المقهى الزجاجيّ ودخل، كما يصعد الفنّان على المسرح نهاية العرض، ليستقبله الناس بالتصفيق والترحيب، ثمّ بدأ الحوار حول الفيلم.




أن تسمع الحرب ولا تراها

تدور أحداث الفيلم في قرية مجدل شمس، في الجولان السوريّ المحتلّ، الّتي تقع على الحدود مع سوريا. 21 دقيقة تلقي الضوء على حياة الزوج كميل، الّذي جسّد دوره الممثّل محمّد بكري، وزوجته محسنة الّتي جسّدت دورها الممثّلة إلهام عرّاف. يمتدّ الفيلم بين لحظة خروجهما من البيت في الصباح، حتّى انتهاء عملهما في حقل الكرز، وذلك على خلفيّة واقع يدمج بين العيش تحت الاحتلال الإسرائيليّ، الّذي تحوّل إلى واقع يوميّ أكثر من خمسين عامًا، وبين الحرب في سوريا، الّتي يسمعان أصواتها عبر نشرات الأخبار، وأصوات التفجيرات المتواصلة، أكثر من سبعة أعوام، يسمعان الحرب ولا يريانها. أن تسمع الحرب ولا تراها، ولا تعرف نتائج ما تسمعه؛ يخلق حالة من عدم الاستقرار والتوتّر المستمرّ، كما تعكس ذلك تصرّفات الزوج كميل في الفيلم، بدقّة متناهية.

بين هنا وهناك

واقع العيش في “بين موتين” يظهر في الفيلم من خلال مشهدين، الأوّل: في الطريق من البيت إلى الحقل، يستمع الزوجان إلى الراديو الّذي ينقل أحداث الحرب في سوريا. هذا المقطع يمثّل حالةً يكون فيها الزوجان بجسديهما في الجولان، لكنّ تركيزهما وأفكارهما وأحاسيسهما في الجانب الآخر من سوريا، حيث تدور الحرب. في اللحظة ذاتها تمرّ سيّارة تابعة للجيش الإسرائيليّ، لتعيدهما وتذكّرهما بأنّهما يعيشان تحت احتلال؛ لتخلق هذه المفارقة حالة من التناثر الجسمانيّ والوجدانيّ بين هنا وهناك.

المشهد الثاني: عندما يصل الزوجان إلى الحقل، تشتبك ذبذبات الراديو بين قناة سوريّة وأخرى إسرائيليّة، تارةً تسمع اللغة العربيّة وتارةً أخرى تسمع اللغة العبريّة. يتّخذ الزوج خطواتٍ إلى الأمام وإلى الوراء؛ محاولة منه لضبط البثّ، لكن عبثًا، لا يستطيع أن يحسم اللحظة لموضعة نفسه في طرف من الطرفين، إلى أن يتغلّب صوت المغنّية اللبنانيّة فيروز؛ منقذًا لحالة الشرذمة الّتي تجسّدها هذه اللحظة من الفيلم.

انتظار

ويعكس الفيلم حالة الانتظار الّتي يعيشها الناس في الجولان، حالة ناتجة عن الإيمان بأنّه لا يمكن أيّ احتلال أن يستمرّ، حالة الانتظار والإحساس بأنّ الوضع القائم وضع مؤقّت، هي حالة تميّز عامّة الشعوب الّتي تعيش تحت احتلال أو استعمار، وهي شبيهة بالحالة الّتي يعيشها الفلسطينيّون بجميع فئاتهم ومواقع وجودهم، على مدار أكثر من سبعين عامًا. حالة الانتظار تعيق حركة الإنسان وقدرته على التفكير والتخطيط، لكن عندما يتحوّل المؤقّت إلى دائم؛ تفرض الحياة اليوميّة على الإنسان الانشغال بصناعة الحياة، كما تجسّد ذلك الزوجة محسنة في الفيلم.

الحرب في سوريا زعزعت حالة المؤقّت الّتي خلقها الاحتلال الإسرائيليّ، وخلقت حالة مؤقّت جديدة، وهي أحداث الحرب ونتائجها؛ أي حالة جديدة من عدم الاستقرار، ومن انتظار تغيير الوضع القائم، ولذلك؛ فقد أعادت الحرب في سوريا إلى الوعي، أنّ الوضع المؤقّت الّذي تحوّل إلى دائم، حالةٌ من عدم الاستقرار أيضًا؛ وبذلك خلق حالة انتظار بين حالتين: الحرب والاحتلال.

قوّة المرأة وضعف الرجل

ويعكس الفيلم الفرق بين الرجال والنساء في مجتمعنا، عند التعامل مع الأزمات. صمت الزوج كميل، ولغة جسده على مدار الفيلم كلّه، تتمثّل بالأداء العالي المتميّز للممثّل محمد بكري، وقد استطاع أن يعبّر بدقّة عن حالة قهره وعجزه، وعن عدم قدرته على القيام بشيء يغيّر الواقع. في المقابل، فإنّ الزوجة الّتي رغم القلق الظاهر على ملامح وجهها في آخر الفيلم، تشغل نفسها في تفاصيل صناعة الحياة اليوميّة، تصبّ القهوة لنفسها ولزوجها، تدعوه لأكل شيء قبل بدء العمل في الحقل، وتحثّه على التغلّب على حالة القلق؛ عن طريق العمل في الحقل. هذا الفرق في التعامل مع الأزمات، مرآة للأدوار، الّتي يبنيها المجتمع للرجل والمرأة، والّتي تخلق توقّعات من كليهما من طرف المجتمع، وتؤثّر في التوقّعات من النفس.

محسنة تبدو أكثر مرونةً في التعامل مع الأزمة، مقارنة بكميل الّذي يرفض التجاوب معها، ويرفض الاستمرار في طقوس الحياة اليوميّة؛ لشعوره بالعجز عن تغيير واقع الحياة المؤقّت، والتخلّص من حالة الانتظار. يعكس الفيلم قوّة المرأة وضعف الرجل في التعامل مع الأزمات، رغم أنّه لأوّل وهلة، من الممكن التعامل مع تصرّفات محسنة على أنّها لامبالاة لما يحدث. عجْز كميل وإحساسه بالقهر نابعان عن عدم استطاعته القيام بالدور الّذي يتوقّعه المجتمع من الرجل، وهو أن يكون قادرًا على التغيير، أو القيام بأيّ خطوة تؤدّي إلى التغيير، ولا سيّما في الحيّز العامّ.

تناثر نفسيّ ووجوديّ

21 دقيقةً تعكس مقطعًا قصيرًا من حياة القلق العاديّة، الّتي يعيشها اليومَ أهالي مجدل شمس. وضْع هذا المقطع الحياتيّ في سياق الحالة بين الاحتلال الإسرائيليّ من ناحية، والحرب في سوريا من ناحية أخرى، كان كافيًا لينقل المخرج أمير فخر الدين طبقات الحياة وتعقيداتها، الّتي تخلق حالةً من التناثر النفسيّ والوجوديّ، وتأثيرات ذلك في الحياة اليوميّة.

إنّ براعة أداء الممثّلَين إلهام عرّاف ومحمّد بكري، والدقّة في نقل أحاسيس الزوجين، وطريقة تعاملهما مع الواقع؛ أدّت إلى أن يعتقد المشاهدون أنّ الفيلم وثائقيّ، وأنّ الزوجين كميلًا ومحسنة هما مَن يظهر في الفيلم، إلى أن ظهرت أسماء الممثّلين في نهاية الفيلم.

________________

* أميمة دياب
طالبة دكتوراه في مجال علم الاجتماع والإنسان، وباحثة في موضوع البيت والبيتيّة في عالم الجماليّات والأدب الفلسطينّيّ في ظلّ النكبة. تدرس وتمارس مهنة التصوير الفوتوغرافيّ، وحاصلة على شهادة ‘أمانة معارض فنّيّة’ من جمعيّة الثقافة العربيّة  في حيفا ومؤسّسة المَعمل للفنّ المعاصر في القدس.

 

 

تعليقات

  1. 21 دقيقةً تعكس مقطعًا قصيرًا من حياة القلق العاديّة، الّتي يعيشها اليومَ أهالي مجدل شمس….فقط اهلي مجدل شمس ??? اين باقي القرى مسعده بقعاثا عين قنيه هل هم حسب رأيك لا يهمهم ححال اهلهم في سوريا ولا ينتظرون زوال الاحتلال …نحن هضبه الجولان ككل نعيش نفس الحاله نفس القلق نفس الانتظار لم يعجبني أنك ذكرت قريه واحده فقط مع الاحترام طبعا لمجدل شمس (حسب رأيي)

    1. يبدو أن كاتب\ة التعليق لم ينتبه\تنتبه إلى أن كاتب المقالة ليس موقع جولاني، وإنما هي الكاتبة أميمة دياب (ليست من الجولان)، وقد تم نقل المقالة من موقع عرب 48، وذلك مذكور في بدايتها. ويبدو أنها ذكرت مجدل شمس لأن مخرج الفيلم من مجدل شمس.

التعليقات مغلقة.

+ -
.