«تاريخ العلوم» وضرورة عدم فصل الاكتشافات عن علمائها

كيف يجري البحث العلمي؟ كيف نتوصل إلى الاكتشافات؟ كيف تأتي الأفكار للباحثين؟ هل الإبداع فطري أم يمكن تنميته وصقله؟ أسئلة متعدّدة تطرح باستمرار، لا سيما عندما لا يكون المرء ضالعاً بصورة مباشرة في العلوم وبحوثها. وللردّ على تلك الأسئلة، يشير كلود بريزنسكي في كتابه «تاريخ العلوم: اختراعات واكتشافات وعلماء» (صدر عن «مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة»/»كلمات عربيّة» في 320 صفحة قطع عادي) إلى أنه لا توجد إجابة محدّدة عن تلك الأسئلة. وببساطة، يشير أيضاً إلى عدم وجود وصفة للبحث والاكتشاف والاختراع، لكنه يعطي بعض الأهمية لأشياء كالمصادفة، والتجربة، والخطأ، والإيحاء، والحدس، والقياس، والاستنباط، والدمج والتركيب، والتنوير المفاجئ وغيرها. ويعتبر أنها عوامل تتدخل بنسب متفاوتة في الاكتشافات العلميّة. ويقتبس عن يهودي مينوهين (1916 – 1999)، أنّه «لا يمكن الوصول إلى الكمال إلا إذا أصبح البحث العلمي نمطاً للحياة».

جمال المنهج والطريقة

على نحوٍ مماثل، يرى بريزنسكي أن من المستطاع شرح الإبداع وكيف تولد الأفكار الجديدة في عقول الباحثين، ووصف المنهج العلمي للباحثين، وإدراك طُرُق بناء المعرفة العلميّة. ويشير إلى مقولات من نوع التمييز الذي أجراه فرانسوا جاكوب (1920) «علم الليل» الذي يختلف عن «علم النهار»، ويقتبس عن خطاب ألقاه أحد العلماء في «جامعة السوربون» عام 1886، أن «أكبر خطأ نرتكبه في حق الاكتشافات العلمية هو فصلها عن مصادرها، وعدم النظر إليها إلا من منظور الحقيقة وحدها».

ويورد بريزنسكي أيضاً رأي عالم الفلك والرياضيات الفرنسي بيار سيمون لابلاس (1749-1827) بأن معرفة المنهج الذي أرشد أي رجل عبقري، ليس أقلَّ فائدة من اكتشافاته ذاتها، وكذلك ما قاله غوتفريد لايبتنتز (646 1- 1716) بأنّ: «هناك شيئاً أكثر أهمية من الاكتشافات الجميلة، هو معرفة المنهج الذي أوصل إلى تلك الاكتشافات».

وينادي بريزنسكي بوجوب عدم فصل الاكتشافات عمّن أنجزوها، رجالاً ونساء. إذ تهدد عملية فصل العلم عن أهله، بخطر ظهور علم جاف غير إنساني، أو علم تقني بحت. ويجدر أيضاً ملاحظة أن العلم جزء من تاريخ البشرية. فقبل أن يصبح أهله علماء، كانوا أطفالاً ومراهقين وطلاباً، وأسّسوا عائلات، وتعاملوا مع زملاء، وواجهوا مصاعب متنوّعة.

وحاول بريزنسكي في كتابه تجميع تواريخ عن عدد من الاكتشافات والاختراعات العلمية في مجالات كثيرة التنوّع، لافتاً إلى أن المسارات لا تختلف بين علم وآخر. ومثلاً، تعتبر علوم الطبيعة من العلوم التجريبية أكثر من علوم الرياضيّات، لكن تدخّل التجربة أيضاً في الرياضيات، ومثلما توجد فروع متعدّدة للعلوم، هناك أيضاً فئات مختلفة من الباحثين. هناك الباحث القوي المؤثر الذي ما أن ينطلق في عملية البحث نجده يتبع الطريق الذي رسمه له أستاذه. وهناك من يشقّون طرقاً جديدة بالفعل. وهناك القادرون على إيجاد حلول لإشكاليات مطروحة، والمبدعون القادرون على خلق أفكار جديدة. وهناك من يستكشف أقطاراً لا تزال بكراً، ومن يسافر لاكتشاف قمة جبلية رصدها آخرون، أو ينظم بعثات استكشاف وغيرهم.

حدس ساحر

في كتابه «تاريخ العلوم…»، يقتبس بريزنسكي أيضاً ما ذكره عالم الرياضيات مارك كاك (1914-1984) في سيرته الذاتية: «في مجال العلوم، وعلى غرار مجالات اخرى من نشاطات البشر، يوجد نوعان من العباقرة: العاديون و»السحرة». يتمثّل العبقري العادي في شخص ربما يتساوى معي أو معك، إذا كنا أفضل مما نحن عليه مرات عدّة. ولا يوجد غموض في طريقته في التفكير أثناء العمل. وفور فهمنا لما يفعله، نتأكد من أننا قادرون نحن أيضاً على القيام بذلك. ويختلف الوضع مع «العباقرة السحرة». فحتى بعد فهمنا لما يفعلون، تظل الطريقة التي يعملون بها غامضة تماماً. إن العباقرة العاديين يجدون تناظراً بين بعض المفاهيم أو النتائج التجريبيّة أو النظريّة، بينما يرى «العباقرة السحرة»، وفق عالم الرياضيات البولندي ستيفن باناخ (1892- 1945) تناظراً بين الأشياء غير المتناظرة. إذ يمتلك أولئك العباقرة موهبة الحدس، فيتنبأون بوجود كنز مجهول وهم يعلمون، من دون برهان ومن دون تحليل، ما عليهم معرفته، ويوجهون أنفسهم تلقائياً في الاتجاه المؤدي للاكتشاف المطلوب. هناك أيضاً العقول المنطقيّة والحدسيّة، فبعض العلماء يظلون في حال عزلة، وليس لديهم إلا عدد قليل من التلاميذ بينما يؤسس بعضهم الآخر مدارس. وهناك فئة تهتم بتطبيق الاكتشافات التي جرى التوصل إليها، وفئة أخرى لا تهتم بذلك. وبصورة دائمة، يملك كل عمل سمته الفريدة والذاتيّة، بل يحمل دائماً بصمة من أنجزه. وهناك فئات لا حدود لها من الأنماط البشرية في مجال العلوم، مثلما يحدث في مجال الفنون والأدب والرسم، إلا أنه توجد نقطة مشتركة بين تلك الفئات من الباحثين في العلوم كافة، تتمثّل في الولع بالعلم».

وفصل مؤلف كتاب «تاريخ العلوم…» بين تفاصيل الاكتشافات العلميّة من جهة، والسير الذاتيّة لمنجزيها من الجهة الثانيّة، ما يمنح القارئ حرية كبيرة في التنقّل على سجيته بين أنواع الاكتشافات وأسماء العلماء.

+ -
.