ثقافتنا والآخرون

إبراهيم صموئيل

أليس جديرا بالتأمل أن يكون حجم ما ترجمنا من أعمال أدبية أجنبية إلى اللغة العربية هو أكبر بكثير جدا مما تُرجم من أعمالنا الأدبية إلى مختلف لغات العالم, في الوقت الذي نوصف فيه بأننا شعوب لا تقرأ, وتوصف فيه شعوب العالم -الأوروبية منها خاصة- بأنها النهمة بالقراءة؟

فإذا كنا شعوبا لا تقرأ -كما دأبنا على تكرار قولنا هذا في مقالاتنا ودراساتنا وحواراتنا حتى بتنا لدى مختلف الأوساط الثقافية الأجنبية كذلك!- فما حال “الشعوب النهمة بالقراءة” إذن, في ظل جهلها معظم الأعمال الأدبية العربية, الصادرة في بلدانها, والمترجمة إلى لغاتها نفسها؟

ألا تندرج هذه أيضا في المشهد الثقافي, وتكون قراءتها أمرا ضروريا جراء بنية شخصية تلك الشعوب القارئة والمحبة للمعرفة, كما يُقال عنها؟

لقد تُرجمت أعمال عديد من الكتاب العرب إلى أكثر من لغة أجنبية, وصدرت عن دُور لها وزنها في أوروبا, وتمت دعوة العديد منهم لإقامة ندوات وأمسيات في بلدان مختلفة.. غير أن إبداعاتهم ظلت حبيسة دوائر محدودة جدا, ونخبوية, من دون أن يتداول إلا أقل القليل من قرائهم هذه الأعمال ويناقشوها.

ثقافة مجهولة
بالمقابل, يندر أن تخلو جلسة ضمت قراء عربا (ولا أقول كتّابا, فلهؤلاء صفة التخصص) إلا وتوالت أسماء كتاب أجانب من مختلف بلدان العالم, وأسماء أعمالهم القديمة والحديثة الصدور, ونبذة عن الحياة الشخصية للبعض منهم, بل نوقشت مذاهب واتجاهات أدبية في بلدانهم, حتى إذا ما حدث وأبدى أحد الجالسين عدم معرفته بهذا الكاتب, أو ذاك المذهب, استغرب باقي الحضور جهله, وربما أظهروا دهشتهم منه, أو أضمروا اتهامهم له بالضحالة الثقافية, وعدم مواكبته العصر.

خلال تجربة لي مع دارسي اللغة العربية وثقافاتها من مختلف الجنسيات -الأوروبية وغير الأوروبية- دامت نحو ربع قرن إلى الآن، كنت ألاحظ الضعف الصريح بمعرفة أسماء الكتّاب والمثقفين العرب, وأعمالهم القصصية والروائية والشعرية. وحين كنت أذكر أمامهم مجموعة منتخبة من الأسماء البارزة، مستفهما منهم عمن سمع بأحدها يوما (حتى لو لم يقرأ له عملا) فالجهل يكون الغالب.

من الممكن أن يكونوا سمعوا باسم طه حسين, أو جبران خليل جبران, أو نجيب محفوظ -بعد نيله جائزة نوبل- أو أمين معلوف وبعض الذين أقاموا بينهم وكتبوا بلغاتهم.. غير أن الأشد ندرة بينهم هم الذين قرؤوا عملا أو عملين من كتبهم.

هذا في ما يخص الأدب فقط, أما إذا أردنا التطرق إلى الفن التشكيلي العربي من رسم ونحت وحفر, ومدى اطلاعهم على مدارسه واتجاهاته, ومعرفتهم بأسماء الفنانين العرب, أو عن فن الغناء ومنجز الموسيقى العربية وتاريخها العريق, وفنانيها وأعلامها الكبار.. فحدّث عن الجهل المطبق ولا حرج!

أصل وفروع
في ظل ذلك, ثمة تساؤلات تلح عليّ: لماذا تهتم أوساط القراء العرب هذا الاهتمام الشديد بالمشهد الثقافي لدى تلك البلدان الأجنبية, في حين لا نلاحظ ما يوازيه أو يقاربه بين أوساط قرائهم إزاء ثقافتنا العربية؟ هل لأننا أبناء حال عربية عامة بائسة ومتردية منذ عقود كثيرة, فنسعى بالمعرفة للتعويض عن واقع الحال, في حين أنهم أبناء بلدان أحوالها تخالف ذلك؟

أيكون لاعتقاد لديهم -بصرف النظر عن صحته- بأن ثقافتهم هي “النموذج المثال” وما لدينا صداه؟ أيكون الإعلام وأحابيله هو العلة؟ أبسبب من نظرتهم بأننا شعوب “متخلفة” لا يمكن أن تنتج ما يستحق الاهتمام؟

كما يرد إلى الذهن مباشرة التفكير بأن المنجز الإبداعي في الأدب والفن, وعلى رفعة مكانته ودوره, ليس سوى “سلعة” في نهاية الأمر, يخضع ترويجها من عدمه إلى حركة السوق ومتطلباته, وإلى المصالح التجارية للمتحكمين الكبار بحركة “سوق الأدب” الذين يتعاملون على هذا النحو مع منتج أدباء بلدانهم, والأحرى أن يتعاملوا كذلك مع الإبداع العربي والكاتب العربي.

وبصرف النظر عن أي جواب على الأسئلة السابقة, فإن الثابت في اعتقادي, والمُطَمْئن لروحي, أنْ ليس ثمة مَنْ هو أهنأ بالا وأخف همًّا وأكثر استمتاعا من تلك الفئة من المبدعين, في مختلف الفنون والآداب, الذين إذ يعكفون على أعمالهم, منشغلين بها, ومتحاورين معها, وفارشين على أوراقها أو أقمشتها أو أوتارها ما يعتمل في دواخلهم ويفيض.. فإنما يقومون بما يشبه التعبد أو التواصل في الحب, غير عابئين إلا بأرواحهم ومشاعرهم, سواء تُرجمت أعمالهم واشتهرت في الداخل والخارج أم لم تشتهر وتترجم, وسواء احتُفي بها وبهم.. أم لم يُحتفَ.

+ -
.