حرب بوتين في سورية هدفها طرد أميركا من المنطقة!

بعد انقطاع عن الأمم المتحدة استمر أكثر من تسع سنوات، أطل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوم الإثنين الماضي من فوق منبر الجمعية العامة ليطرح، على ممثلي مئتي دولة، مبادرة جديدة لحل أزمة سورية.

وبما أن المعركة التي قرر تسويقها تقتضي القضاء على تنظيم «داعش»، فقد أعلن بوتين قبل زيارة نيويورك عن افتتاح مسجد موسكو عقب ترميم مظهره الخارجي. وقد اشترك معه في الاحتفال الرئيسان التركي رجب طيب اردوغان والفلسطيني محمود عباس. وكان بهذه البادرة المفاجئة يريد تأكيد احترامه الدين الإسلامي الذي تعتنقه شريحة من الشعب الروسي تمثل ما نسبته عشرون في المئة من عدد سكان روسيا البالغ 140 مليون نسمة.

ويرى المعلقون أن بوتين قام بهذا الاحتفال في أقدم مساجد روسيا (1904) بهدف منع استغلال العامل الطائفي في عملية إنقاذ نظام بشار الأسد.

وبانتظار صدور مثل هذه الاتهامات في حال وجهت القوات الروسية ضرباتها إلى «داعش»، فإن واشنطن اكتفت هذا الأسبوع بانتقاد أول عملية عسكرية في حمص. وادّعى وزير الدفاع الأميركي أشتون كارتر أن التفجيرات نسفت مراكز المعارضة السورية، كأنها بذلك العمل تُضعِف خصوم الأسد قبل المباشرة في إضعاف الإرهابيين.

يوم الإثنين الماضي، تحوّل منبر الجمعية العامة إلى مبارزة كلامية استهلها الرئيس باراك اوباما بوصف الرئيس بشار الأسد بـ «الطاغية، قاتل الأطفال ومهجِّر شعبه».

وقال بوتين «إن الذين يهدفون إلى تدمير الحكومة الشرعية في سورية سوف يخلقون وضعاً رأيناه في دول أخرى من المنطقة، مثل ليبيا التي قوضت مؤسساتها… أو مثل العراق الذي حلَّ الاجتياح الأميركي جيشه وسرَّح أفراده، الأمر الذي دفع بآلاف العناصر إلى الانخراط في المنظمات الإرهابية».

وقبل أن يكمل كلمته، التفت بوتين إلى حيث كان يجلس الوفد الأميركي، ثم أكمل: «إن شعوب الشرق الأوسط أرادت التغيير بطبيعة الحال، ولكن هل تدركون ماذا فعلتم؟ لا أتوقع إجابة منكم. وإنما أقول إن الفراغ في السلطة أدّى إلى تفشي الإرهاب والتطرف.»

وكان اوباما قد احتاط في خطابه لمثل هذه الانتقادات، فإذا به يبادر إلى التعليق عليها بالقول إن بلاده ستعمل في المستقبل على تجنب الأخطاء التي ارتكبتها في أماكن أخرى مثل ليبيا والعراق.

ولكن هذه الأخطاء في رأيه، لا تقاس بسجل الأخطاء المميتة التي ارتكبها الأسد الذي وصفه بـ «الديكتاتور الذي قتل عشرات الآلاف من شعبه بالسلاح الكيماوي والقذائف العشوائية».

ثم خلص اوباما إلى القول: يجب أن نعمل على تحقيق انتقال بعيد عن الأسد من أجل إيجاد حكومة جديدة يتمكن الشعب السوري بواسطتها من إعادة بناء بلاده.

وردَّ بوتين على هذه الاقتراح بطريقة غير مباشرة، مشدداً على ضرورة دعم الرئيس بشار الأسد في سياق محاربة تنظيم «داعش».

إضافة إلى هذا الموقف المتصلب، ذكرت الصحف أن الاجتماع على انفراد بين بوتين واوباما تخلله بعض المباحثات المتعلقة بالاقتراحات التي قدمها الأسد لتسهيل مهمة بوتين. وهي اقتراحات تشير إلى موافقته على برنامج سياسي يتعلق بتنظيم انتخابات مبكرة تشارك فيها أحزاب المعارضة، وتضمنها رقابة دولية. كما يضمنها أيضاً الرئيس الروسي كما حصل مع اتفاق نزع السلاح الكيماوي في خريف 2013. وقد وصفت التعليقات ذلك البرنامج بـ «وديعة الأسد».

تقول واشنطن في تعليقها الأخير على كل ما حدث حول المبارزة الديبلوماسية في أروقة الأمم المتحدة، إن دخان الانفجارات في حمص حجب «وديعة الأسد» وكل ما تضمنته من وعود وبرامج تتعلق بمواقف الدول الغربية من هذا النزاع.

ويُستدَل من النشاطات السياسية والعسكرية التي قام بها بوتين قبل هذا الأسبوع، أنه كان عازماً على خوض حرب طويلة في سورية. وبين المؤشرات الجدية التي تؤكد هذا التحول، إصراره في قمتي «مجموعة بريكس» و «منظمة شنغهاي للتعاون» على دعم موقفه الداعي إلى مواجهة تمدد الإرهاب في الشرق الأوسط.

وترى قيادة حلف شمال الأطلسي «الناتو» أن الرئيس الروسي أدخل العالم في أجواء حرب باردة ربما تزعزع أسس السلام العالمي، وتمهد للدخول في مرحلة بالغة الخطورة.

وكان من الطبيعي أن يبادر وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى الإعراب عن استياء الإدارة من تجاهل موقف اوباما. وتردد أنه طلب من نظيره الروسي سيرغي لافروف إجراء تنسيق مسبق خوفاً من حدوث تصادم في الجو بين الطائرات الأميركية والروسية.

ومن أجل تحاشي هذه الاحتمالات، قام بنيامين نتانياهو بزيارة سريعة لموسكو يرافقه رئيس الأركان ورئيس الاستخبارات العسكرية ومستشار الأمن القومي. ولما أعرب نتانياهو عن قلقه من وصول 28 طائرة حربية إلى القاعدة الجوية التي بنتها روسيا قرب اللاذقية، طمأنه بوتين إلى ضرورة إنشاء هيئة تنسيق لمنع الصدام بين الطائرات الحربية المغيرة. وبالفعل أُنشِئت لجنة برئاسة الجنرال الروسي فاليري غارسيموف ورئيس الأركان الاسرائيلي غادي ايزنكوت.

وانتهت المحادثات باتفاق لم يكن يتوقعه رئيس الحكومة الاسرائيلية، خصوصاً أن هيئة التنسيق المشتركة كانت بمثابة اعتراف من بوتين بحق إسرائيل في استخدام الفضاء السوري.

ولكن المعارضة في إسرائيل ترى في هيئة التنسيق قيوداً ستقلص حرية العمل التي تمتع بها الأسطول الجوي سابقاً. ذلك أن الوجود العسكري الروسي في سورية، من خلال الدبابات والسفن الحربية والوحدات الخاصة وأجهزة الدفاع الجوي… كل هذه الأسلحة فرضت تقسيم سماء سورية إلى مناطق نشاط. لهذا السبب، تعهد نتانياهو بأن قواته لن تقترب من قاعدة اللاذقية، حيث تقيم روسيا معسكرها الأكبر الخاص بعمليات دعم نظام بشار الأسد، وتنظيف محيطه من الخصوم… وخصوصاً من النفوذ الأميركي.

ووفقاً لواشنطن وحلف شمال الأطلسي، فإن نقل الطائرات الهجومية والمروحيات ومنصات الصواريخ والدبابات والجنود… كل هذا يؤشر إلى أن الجيش الروسي يبني قاعدة راسخة في المنطقة. وقد تكون هذه هي المرة الأولى التي تتدخل روسيا – بوتين خارج حدودها منذ التدخل السوفياتي في أفغانستان سنة 1979.

ويدّعي بوتين أن الدول الغربية والعربية تقاعست عن وقف حرب الاستنزاف السورية على امتداد أربع سنوات، نشأت من بعدها «الدولة الإسلامية». وكلفت الحرب 240 ألف قتيل وتهجير ملايين الأبرياء. هذه الأمور دفعت الرئيس الروسي إلى ركوب مغامرة محسوبة، هي الأولى في منطقة الشرق الأوسط. ومعنى هذا أن سورية ستصبح مركز نفوذ موسكو الوحيد على البحر الأبيض المتوسط. ومنها تنطلق لترسيخ وجودها في منطقة كانت روسيا القيصرية والبلشفية تحلم بالوصول اليها.

ومن أصداء هذه المغامرة العسكرية يرتفع السؤال المتعلق بأبعادها السياسية، وما إذا كانت هي وليدة عزلة دولية سببتها أزمة أوكرانيا… أم هي وليدة فكرة صنعتها الانهيارات التي تعرضت لها روسيا عقب تجريدها من غلافها الإقليمي، ومن المنظومة الاشتراكية.

مطلع هذه السنة صدرت عدة مؤلفات عن روسيا، كان أهمها كتاب «اختراع روسيا» لمراسل جريدة «فايننشال تايمز» أركادي اوستروفسكي.

ومحور الكتاب يتلخص بالاختبارات السياسية التي أجريت طوال السنوات الثلاثين الماضية بهدف ترميم النظام بواسطة ميخائيل غورباتشيف وبوريس يلتسن، ومن بعدهما بوتين.

وفي كتاب آخر يحمل عنواناً مثيراً «القيصر الجديد»، من تأليف ستيفن مايرز، يرى الكاتب أن بوتين يتصرف من فوق مكتبه في قصر الكرملين مثلما كان يتصرف القياصرة. أي بغطرسة، وديكتاتورية مطلقة لا تحتمل الاعتراض أو الانتقاد. لذلك ألغى خصومه في الخارج بتجريعهم السمّ. وسجن منافسيه في الداخل ولو كانوا من أغنى أغنياء اليهود. وقد وصفته زوجته السابقة بأن قلبه لا يعرف الرحمة مثل الطاغية، مثله الأعلى، ستالين!

المهم، أن بوتين اختار أن يربط مستقبله السياسي بمحور إيران الذي يتمدد من طهران عبر بغداد ودمشق إلى بيروت. لذلك وقّع اتفاقاً استخبارياً مع العراق، وعرض على إيران إقامة حلف يضم كل الدول الداعية إلى محاربة «داعش».

يقول بعض المحللين إن الرئيس الروسي عازم على استرجاع الدول التي انسلخت عن الاتحاد السوفياتي مطلع التسعينات. وقد اختار سورية كمحطة مغرية يمكن أن تساعده على نشر علاقات جديدة مع الدول الخليجية النفطية. خصوصاً أن انهيار أسعار النفط والعقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة على القطاع المصرفي الروسي، قد أدّت إلى تراجع الدخل الحقيقي للموظفين. لذلك تحاول الحكومة إخفاء ميزانية الإنفاق العسكري المتزايد مع برامج إعادة تسليح الجيش، والرغبة في إنشاء قواعد عسكرية جديدة في اوكرانيا وسورية والعراق.

ومع أن رئيس الوزراء ديمتري مدفيديف، يحاول إخفاء أهم الصعوبات الاقتصادية بغرض إرضاء معلمه بوتين، إلا أنه لم يستطع حجب البيانات الرسمية التي تتحدث عن انضمام ثلاثة ملايين مواطن إلى «جيش الفقراء». كذلك أفادت هيئة الإحصاء بأن عدد الفقراء في روسيا ارتفع إلى ما نسبته 15 في المئة. وأعلنت أيضاً أن دخل 22 مليون روسي بات أقل من الحد الأدنى للمعيشة.

والحل كما يراه بوتين يكمن في إقبال دول مجلس التعاون الخليجي على عقد صفقات أسلحة بسبب الحروب الصغيرة التي يتوقع أن تغزو الشرق الأوسط. كما يتوقع أيضاً تغييب الدور الأميركي الذي انخرط في عملية تنسيق مع إيران، متخلياً عن سبعين سنة من الانفتاح التجاري على الدول العربية.

ويُستدَل من وقع المعارك هذا الأسبوع بأن تدفق المقاتلين من إيران عبر العراق، قد يقلب ميزان القوى الداخلية، ويسمح لموسكو بعقد طاولة حوار مع جميع القوى المتورطة في القتال. ومن المؤكد أن دور الإنقاذ لنظام بشار الأسد الذي حققه «حزب الله» يمكن أن ينعكس في شكل إيجابي على مستقبل الوطن الصغير، أي الوطن الذي ينتظر دوره بقلق وسط فوضى عارمة عجز الرئيس تمام سلام عن وصف كوابيسها المزعجة أمام ممثلي دول العالم في قاعة الجمعية العامة!

* كاتب وصحافي لبناني

+ -
.