خريطة مصر السياسية في ضوء الانتخابات الرئاسية

يتوقع كثيرون أن تشهد خريطة مصر السياسية مقداراً كبيراً من التغيير، خصوصاً بعد إعلان مؤسس التيار الشعبي حمدين صباحي نيته خوض الانتخابات الرئاسية مرشحاً لثورتي 25 يناير و30 يونيو. إلا أنني أتوقع أن مقداراً كبيراً من الجمود سيلف مستقبل مصر السياسي في ضوء التفاعلات التي اعتملت مع بداية انطلاق الانتخابات الرئاسية المصرية.

هناك سياقان يمكن من خلالهما القيام بمقاربة تحليلية تستشرف مستقبل العملية السياسية في مصر. الأول هو سياق الماضي القريب الذي جرت فيه انتخابات الرئاسة في 2012، والثاني هو سياق الواقع السياسي المصري المأزوم عقب عملية عزل الرئيس الإخواني محمد مرسي. ففي إطار هذين السياقين، يمكن رصد مواقف القوى والتيارات السياسية الفاعلة في الشارع السياسي المصري، ومن ثم التنبؤ بخريطة مصر السياسية المستقبلية.

ففي ما يتعلق أولاً بالمرشحين الثوريين الكبيرين في انتخابات 2012 وهما حمدين صباحي وعبدالمنعم أبو الفتوح، فإن الأول وبعد أن حسم قرار ترشحه في مواجهة المشير السيسي، فإنه يواجه تحدياً كبيراً وهو انقسام قوى 30 يونيو في شأن مرشحهم المحتمل للرئاسة. فهناك طيف سياسي واسع ضمته تلك الانتفاضة الشعبية يصعُب على صباحي الإبقاء عليه في كليته، ومن ثم تكتيله خلفه في انتخابات الرئاسة. فهناك العلمانيون والأقباط الخائفون من موجة العنف الإرهابي المحتمل استمرارها لسنوات عدة مقبلة والتي لن يقدر على مجابهتها من وجهة نظرهم إلا أحد القادة المنتمين إلى المؤسسة العسكرية، بما يضمن عدم صعود الفاشية الدينية مرة أخرى، وهناك الناصريون الذين يرون في المشير السيسي نموذجاً قابلاً لاستنساخ تجربة عبدالناصر من جديد، خصوصاً في ظل ضعف قاعدتهم الشعبية في الشارع الذي عوضته الجماهيرية الطاغية للمشير السيسي، وذلك على رغم أن موقف الناصريين هذا يُشكل لهم أزمة أخلاقية بوقوفهم في مواجهة حمدين صباحي، ابن المشروع الناصري وحليفهم الأيديولوجي المفترض في ظل أية ظروف طبيعية، وهناك شباب تمرد الذي عصفت به الانقسامات عقب إعلان بعض شباب الحركة دعمهم لحمدين صباحي، كمرشح ثوري في مواجهة السيسي… فقد اعتبر محمود بدر أحد مؤسسي تمرد أن إعلان بعض ناشطي الحركة تأييدهم لحمدين صباحي يعنى تجميداً لنشاطهم السياسي داخلها، بعد أن اعتبر جناح بدر أن تأييد المشير السيسي هو الضمانة الوحيدة لتحقيق مطالب ثورتي 25 يناير و30 يونيو، ومن ثم فإن التيار الثوري بجناحه المدني ممثلاً برموز جيل السبعينات من الحركة الطلابية المصرية سيواجه الأزمة نفسها التي واجهها في انتخابات 2012 عندما تفتتت أصوات الشباب من مؤيدي هذا التيار بين صباحي وأبو الفتوح، ومن ثم فإن تلك التحديات التي يواجهها صباحي لن تعادلها من الناحية الموضوعية الفرصة التي خلقها قرار انسحاب أبو الفتوح من سباق الرئاسة الحالي.

على العكس من ذلك، فإن هذا القرار سيُعمق الأزمة السياسية الحادثة الآن في مصر، فانسحاب عبدالمنعم أبو الفتوح يعني بكل تأكيد أن القطاع الذي بات يعبر عنه من الإسلاميين ممثلاً بحزب مصر القوية وتحالف دعم الشرعية وقواعد الحركة السلفية لا يعترف بشرعية تلك الانتخابات، ومن ثم فإنه سيواصل فعالياته في الشارع، لا سيما أن الفوز المتوقع للمشير السيسي سيعمّق لدى هذا الطيف الواسع من الإسلاميين الإحساس بالمظلومية والذي سيتنامى مستقبلاً. فتنصيب السيسي رئيساً سيؤكد مفهوم الانقلاب لدى تلك القوى التي ما زالت ترفض من الناحية الشعورية استيعاب صدمة عزل الرئيس الإخواني المنتخب محمد مرسي.

وفي ما يتعلق ثانياً بالقوى التقليدية في مصر، فمن المؤسف حقاً القول إنها باتت تمثل التيار السياسي الصاعد بعد ثورة 25 يناير وموجتها في 30 يونيو. ففكرة المرشح ما بعد الثوري كانت وما زالت رائجة في أوساط الجماهير، إذ إن فرصة أو شعبية القوى التقليدية التي عبر عنها الفريق أحمد شفيق في انتخابات 2012 تضاعفت الآن بعد 30 يونيو. وهو ما يؤكد وجود تيار مضاد للثورة بمعناها الراديكالي أخذ في التصاعد بين الجماهير منذ انتخابات 2012 وهو تيار كان ولا يزال قابلاً للبلورة في مشروع حزب سياسي وقادر أيضاً على التعبير عن نفسه بقوة خلال أية انتخابات نيابية أو رئاسية، بغض النظر عن الكاريزما التي يتمتع بها عبدالفتاح السيسي. وهو أمر لم تلتفت إليه النخبة التي فشلت في تجديد شرعيتها خلال انتخابات 2012 وبعدها بالتوافق أولاً على طبيعة وخطوات عملية التحول الديموقراطي قبل التوافق على شخص الرئيس. وذلك أمر كان ولا يزال يتطلب تجسير الفجوة الكبيرة بين خطابات النخبة وأجنداتها المتصارعة والخروج بتصور سياسي شامل قادر على طمأنة الجماهير والأقليات الدينية على تحقيق مطالبها وصيانة حرياتها العامة وقادر كذلك على الحيلولة دون حدوث صراع على السلطة. ففشل النخبة بتياراتها كافة في إنجاز تلك المهمات في مرحلة دقيقة كهذه، كان نتيجته ما تعيشه مصر الآن من صراع سياسي وانقسام مجتمعي أفضيا إلى أن تكون أكثر القوى عداءً للثورة هي أكبر الرابحين منها. وهو ما يؤكد فرضية أن الثورة الحقيقية ليست بتعدد هبَّاتها، ولكن بما أفرزته من تغييرات في الثقافة السياسية السائدة وفي منظومة القيم المجتمعية اللتين تعكسهما الأوزان النسبية لقوى الثورة في الشارع.

أما في ما يتعلق ثالثاً وأخيراً بالقوى الشبابية، فإنها لم تفلح حتى الآن في تجاوز الأزمتين الجيلية والأيديولوجية. فأعمار المتنافسين في انتخابات الرئاسة المقبلة تؤكد أن ناشطي جيل شباب السبعينات وقادته العسكريين لا يزالون مهيمنين جيلياً على الواقع السياسي المصري. ومن ناحية أخرى، فإن الشباب الثوري لم يستطع طوال ثلاثة أعوام تجاوز الاستقطابات الإيديولوجية التقليدية التي تدشنت منذ مطلع الثلاثينات وحتى نهاية الستينات من القرن المنصرم، مبلورةً صراع الأفكار ما بين صيغ إيديولوجية إسلامية وعلمانية وقومية. بل على العكس من ذلك، فإن حال الاستقطاب التي خلَّفها صراع تلك الأيديولوجيات التقليدية كان ولا يزال سبباً رئيساً في تفكك القوى الشبابية، ومن ثم ضعف فاعليتها وتآكل أرضيتها الجماهيرية بما يؤكد في مجمله أن الديموقراطية التمثيلية التي يعبر عنها صندوق الانتخابات لا يمكن أن تعوض انتكاسة الفعل الثوري وإخفاقه في رسم خريطة سياسية جديدة لمصر.

+ -
.