«داعش» إذ يُنهي سياسة احتواء سورية

في الأسابيع الأخيرة، انكسر الحاجز النفسي لدى كثيرين من السوريين والدول الإقليمية والدولية. ليس هناك حل سريع للأزمة السورية. النظام باق في «سورية المفيدة» ويتمدد من دمشق إلى القلمون إلى مدينة حمص في الوسط والساحل وكسب غرباً، مع السيطرة على طريق دمشق – بيروت، وفي السويداء ومناطق في درعا بين العاصمة السورية وحدود الأردن جنوباً.

وفي المناطق الخارجة عنه، يسيطر الأكراد على ثلاثة كانتونات: منطقة الحسكة وتمتد من رأس العين (سري كانيه) و30 كيلومتراً غرباً على حدود تركيا إلى القامشلي وعين ديوار واليعربية على حدود العراق شرقاً، ومنطقة عفرين بين حلب وحدود تركيا شمالاً، ومنطقة عين العرب (كوباني) على حدود تركيا إلى تل أبيض بشريط يتراوح عمقه بين 30 و60 كيلومتراً.

وما تبقى من مناطق على الأرض، يسيطر على مساحة منها «الجيش الحر» ويتصارع على أخرى أمراء حرب وقادة في المعارضة المسلحة وتنظيمات مثل «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) التي تخوض قتالاً ضد «جبهة النصرة»، مقابل احتكار النظام التفوق الجوي والسيطرة على سماء سورية كلها.

إنه توازن مرن. يتقدم النظام في منطقة. تهاجم المعارضة في منطقة أخرى. (سيطرت المعارضة على تل جموع في درعا جنوباً، واستعاد النظام كسب في ريف اللاذقية غرباً). توازن عسكري على الأرض ارتسمت فيه خطوط عامة لم تغير منها «انتصارات» هنا أو «انسحابات تكتيكية» هناك. واقع لا يسمح بالتوصل إلى تسوية سياسية لأزمة عميقة، بل تغوص سورية مع امتداد عمرها في مزيد من التفسخ في المجتمع والاقتصاد تصعب لملمته قبل التعامل عن المطالب التي خرج الناس إلى الشوارع من أجلها ووضعوا أسئلتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية على الطاولة.

انكسر الحاجز النفسي. السوريون في أماكن اللجوء راحوا يتكيفون مع «بلادهم» الجديدة ويؤسسون لاستقرار من نوع ما. يدرسون ويشتغلون ويتزوجون. السوريون الموجودون في الداخل، بعضهم «تصالح وسامح» وهناك من «صالح ولم ينسَ». بعضهم «انتصر وانتقم» وهناك من «انتصر وسامح» أو «انتصر وهو خائف». هناك من قبل بـ «نصف انتصار»، بينما يصر آخرون على «انتصار كامل». بعضهم يراها «معركة سياسية» لها علاقة بالشراكة والمحاصصة، في حين ينظر إليها آخرون على أنها «معركة بقاء»، ما يعني أن أنصاف الحلول وتوقف عجلة رحى الحرب غير مقبولين. هناك من خسر وانحدر اجتماعياً واقتصادياً. لكن هناك أيضاً، من قفز إلى طبقة جديدة مستفيداً من الحرب وتسلق على سلم آلام الآخرين. لكن كلهم يجمعون على أن الأزمة لم تحل من جذورها وأنهم يعيشون في الموقت.

حاولت حكومات جيران سورية التكيف مع وجود أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ والاستعداد للتحديات الأمنية والاقتصادية والديموغراقية. بعض هذه الحكومات عثر على «عباءة عثمان» بوجود مئات آلاف السوريين لتكون شماعة يعلق عليها فشل السياسات المحلية. وجد في «الإخوة السوريين» منصة لانتصارات على خصوم محليين. أما المجتمعات المجاورة، فبعض أفرادها استيقظ على عنصرية. آخرون راهنوا على انتصار فئة في سورية لتعزيز مواقعهم في المعارك الداخلية. يقبل البعض بوجود مئات آلاف السوريين لتغيير التوازن الطائفي أو الديني، ويهلع آخرون من وجودهم الطويل.

لم تعد مجموعة «أصدقاء الشعب السوري» تتحدث عن «أيام معدودة» للنظام، أو «رحيل» الرئيس بشار الأسد. ووضع انسداد أفق التسوية مفاوضات جنيف في الثلاجة. ولا استعجال في البحث عن بديل للمبعوث الدولي – العربي الدولي الأخضر الإبراهيمي ولا في البحث في مهمة المبعوث الجديد. وعندما يجري الحديث عن «تغيير ميزان القوى على الأرض» بهدف «تغيير حسابات» الرئيس الأسد لقبول تشكيل هيئة حكم انتقالية بصلاحيات تنفيذية كاملة وقبول متبادل بين النظام والمعارضة، لم يعد الكلام عن «ستة أو ثلاثة أشهر».

في الاجتماعات الأخيرة لـ «النواة الصلبة» التي تضم 11 من «أصدقاء سورية»، سواء اجتماعات رؤساء أجهزة الأمن أو كبار الموظفين السياسيين، بدأ الحديث عن إطار زمني لـ «تغيير ميزان القوى» يمتد إلى «السنوات وليس أشهراً». بعضهم يتحدث عن «سنة أو سنتين»، فيما تحدث مسؤول غربي كبير في جلسة مغلقة عن «ما بين ثلاث وخمس سنوات».

يقول مسؤولون في هذه الدول للمعارضة إنهم يعملون على «خطة استراتيجية منسقة» تتضمن عناصر عسكرية ومدنية واقتصادية ترمي إلى دعم «المعارضة المعتدلة» بالسلاح والتدريب والخبرات والمعلومات لـ «إقناع النظام وحلفائه (إيران، روسيا) أنه ليس هناك حل عسكري للأزمة ولا بد من تشكيل هيئة حكم انتقالية». أيضاً، الهدف هو «محاربة المتطرفين والجهاديين». أميركا ودول غربية، مقتنعة وراضية من أن المعارضة تحارب «داعش»، لكنها تريد من المعارضة المسلحة أن تحارب أيضاً «النصرة» مع إدراكها زيادة نفوذ هذه الجبهة، خصوصاً في حلب. وكان التعهد بقتال «النصرة» شرطاً لتقديم «سلاح نوعي».

على رغم التحديات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والكلفة السياسية، يمكن احتواء الأزمة السورية. هكذا، كان الاعتقاد والسياسة الفعلية. لا الانخراط الكامل مع النظام مقبول، ولا الدعم الكامل للمعارضة مطروح. أرادوها فعلياً حرب استنزاف بين الجهاديين و «حزب الله». بين المتشددين والنظام السوري. حرب بالوكالة بين قوى إقليمية. إنهاك إيران وروسيا. أن تبقى حرباً داخل أسوار سورية، لا تفيض على دول الجوار. تفجير هنا وتوتر هناك. مخيم هنا ونازحون هناك. مساعدات إنسانية وطبية وغذائية وتمكين جمعيات أهلية. المعروض إدارة جميع التحديات إلى سنوات إلى أن يحين وقت قطاف الحل السياسي.

فجأة، تحركت المياه الراكدة. انهارت نظرية «احتواء» الأزمة السورية مع الانهيار الكبير للقوات العراقية في الموصل والتقدم السريع لـ «داعش» وتوجه مقاتليه ووراءهم بعض «الصحوات» والجيش العراقي المنحل و «بعثيون» إلى بغداد. كان العراق قائماً على التوافق بين المكونات الشيعية – السنّية – الكردية. عندما انهار هذا التوافق بتراجع حضور الرئيس جلال طالباني وإقصاء نائب الرئيس طارق الهاشمي واستئثار رئيس الوزراء نوري المالكي وفئته بالسلطة، توافرت شروط ازدهار «داعش» وأخواته. توافرت الذخيرة العقائدية كي يستفيد المتشددون من المظالم الاجتماعية – الاقتصادية والإقصاء السياسي المتراكم منذ حل الجيش العراقي قبل أكثر من عقد، لشحن المشاعر وتذخيرها بتنظيم وعقيدة.

هل يمكن سحب معادلة الإقصاء – الاستئثار الموجودة في العراق على سورية ولبنان ودول أخرى؟

الربط ليس فقط لأن «داعش» مسح الحدود بين البلدين، بل لأنه كشف عمق الترابط والتداخل وأن الأزمة سياسية وليست أمنية. لذلك، فالرد على تهديدات «داعش» والإرهابيين بأدوات عسكرية، لن يكون إلا تعميقاً للأزمة. اعتماد الحل الأمني لا يستعيد الأمن، بل يبعد الاستقرار. هناك من يراهن على معادلة «بديلنا هم الجهاديون» و «إما أنا أو داعش»، وهناك من يبحث عن دور وظيفي في الحرب على الإرهاب أو أن يستثمر مفاجأة «داعش» لتحقيق مكاسب سياسية، وإلا لِمَ هذا التهليل السريع بـ «انتصارات» تنظيم «داعش» من أطراف يفترض أن يكونوا في الضفة الأخرى، طرف العداء للجهاديين. وهناك من راهن على استخدام الجهاديين أداة للضغط لتحقيق مآرب سياسية للدفع إلى حافة الهاوية للوصول إلى تنازلات وشراكة. الطيران قصف لأول مرة بـ «غارات عنيفة» مقار لـ «داعش» شرق البلاد. «الائتلاف الوطني السوري» المعارض جدد إدانته «إرهاب داعش ومحاربته». الطرفان يريدان ركون أمواج الحرب على الإرهاب.

هذا لا يعدو كونه تمديداً وتعميقاً للمأزق. يقول مسؤول غربي إنه لا يمكن شن الحرب على الجهاديين و «داعش» من دون تمثيل حقيقي لكل مكونات المجتمع، وإلا فإنه سيكون الانطباع أنها «حرب شيعية ضد أهل السنّة». وهذا الانطباع سيولد مزيداً من الذخيرة للتطرف والتشدد ويخلق الظروف المثالية لـ «داعش» وأخواته. كذلك، لا يمكن استخدام الجهاديين للوصول إلى غايات في حقل السياسة. دلت التجارب في العقدين الماضيين، على أن من يخرج مارد الجهاديين من القمقم، لن يكون قادراً على إعادته، وأن الجهاديين لسعوا من عزف لهم الموسيقى، وضربوا من رقص معهم، وعضوا من نام معهم في السرير، والتهموا من أطعمهم.

زالت حدود سايكس – بيكو على الأرض، على الأقل في ضلعها العراقي. كما تآكلت في ضلوعها الأخرى في المنطقة. بقيت في الخرائط. وبمقدار ما شكلت غزوة «داعش» الأخيرة من تحديات، فإنها كشفت عمق الأسئلة المطروحة في المنطقة التي كانت رموضوعة على الرف ومستودعات التاريخ لغض الطرف عنها أو تأجيل قراراتها الصعبة بسبب تخيل إمكانية التعايش معها. «داعش» قلب الطاولة. وقد يمثل هذا فرصة حقيقية لحلول غير تجميلية والتفكير خارج الصندوق المغلق منذ ثلاث سنوات باتجاهي النظام والمعارضة.

___________________________

* ابراهيم حميدي – صحفي سوري

+ -
.