دماغ المراهق: هل تعرفه حقّاً ؟ إنه مدخلك للتعامل معه

إنّه مشهد مألوف عائليّاً. تتحدّث الأم مع ابنتها المراهقة، ويخاطب الأب ابنه الشاب اليافع. عبثاً يفعل الوالدان. لا ترتفع عينا المراهق/ المراهقة عن شاشة الهاتف الذكي، فيما لا تكف الأصابع عن كتابة الرسائل إلى «الشلّة» والصديقة المقرّبة وربما… «الحب الأول»! شيئاً فشيئاً، يتحوّل الأمر إلى حوار طرشان بامتياز، مع أفق مسدود في حوار مجد ما يعني وهناً مستمراً في فعاليّة العلاقات الأسريّة. «مع من تتحدث/ تتحدثين»؟.. «لا أحد»، ثم «ماذا تقول لهم»؟.. «لا شيء». «أنا أتحدث إليك، فأنظر إليّ»… «آه، طبعاً. حسناً، أنا معك». لكن، الأعين الشابة لم ترتفع عن الشاشات إلا هنيهة أو بالكاد. وربما كان «الحلّ» الفعلي هو شجار مكتوم أو معلن، أو هروب المراهق إلى غرفته أو حتى صمت يشبه الصمم عن كلام الأبوين مع الانصراف كليّاً إلى شاشة الخليوي. إنّها أزمة لا مراء فيها أبداً.

لا يُقصد بالكلمات السابقة رمي مسؤوليّة الفجوة بين الأسرة ومراهقيها على التقنيات الرقمية الحديثة. لا علاقة للتقنية بالأمر. لو أمعن آباء الجيل الإلكتروني الشاب، النظر في ماضي مراهقتهم لوجدوا أنهم لم يكونوا يختلفون كثيراً عن تصرّفات أبنائهم، بمعنى أن التمرّد خيط أساسي فيها. ولربما وجد بعض الآباء فوارق بين تمرّدات مراهقتهم من جهة، وتلك التي يعانون انسداد أفق التعامل معها في الأزمنة الحاضرة. والأرجح أن بعض التدقيق يكفي للتوصّل إلى أنّ الفوارق هي أقرب لأن تكون شكليّة، أما في العمق فلربما برز تشابه عميق. يكفي تذكّر تمرّدات المراهقة في الماضي القريب (مع مرادفاتها عربيّاً) على غرار الـ «هيبيز» و «البيتلز» والـ «وود ستوك» و «ثورة الشباب فرنسا والعالم» و «جيل تمرّدات الشوارع وعنفها» و «شباب الجينز» و «جيل الروك أند رول» و «جيل البانكس» و…القائمة طويلة.

 التغيّر وحلقات «سلسلته»

الأرجح أنه يمكن القول إنّ المراهقة شكّلت دوماً أرقاً عائليّاً، تعاملت معه أجيال مختلفة بطرق متنوّعة. وعلى نحو دائم، كانت المراهقة موضع اهتمام علماء الاجتماع وعلم النفس وعلوم التواصل وغيرها. ولعل الأحدث في ذلك الصدد، هو تركيز العلم حاضراً على فهم دماغ المراهق والتغيّيرات التي تطرأ عليه في تلك المرحلة. ومن المستطاع إرساء أساليب يؤمل أن تكون فعّالة، استناداً إلى ما تظهره العلوم عن دماغ المراهق، مع ربطها بمسارات اجتماعيّة وثقافيّة وتاريخيّة محدّدة (وتؤثّر في الشباب وتمرّداته)، بمعنى أن تأثيرها يتفاوت في كل تكوين اجتماعي وفق خصوصيّاته أيضاً.

 واستطراداً، يجدر تذكّر أنّ الدماغ موجود فوق جسد بأكمله، وربما لا شيء معروف عن المراهقة أكثر من التغيّرات التي تحدث على مجمل الجسد فيها. وتشمل الطول والوزن والصوت والشعر، لكن أبرزها يتعلّق بالجنس كظهور شعر العانة والإبطين (والصدر ومجمل الجسم عند الذكور)، وبروز الأثداء وتبدّل حجمها وتركيبتها (عند الأنثى)، وتغيّر الأعضاء الجنسيّة، وتبلور مسارات حسيّة مرتبطة بملامسة تلك الأعضاء، ودخول الأنثى في العادة الشهرية وما إلى ذلك. وتتبدّل تصرّفات المراهق وعلاقاته وتفكيره وسلوكياته وغيرها، كما تظهر تلك الفجوة المعروفة بين الأجيال معبّر عنها بالتمرّد واضطراب العلاقة مع العائلة والوالدين والأقارب وما إلى ذلك. مجدداً، يركز العلم حاضراً على التغيير الذي يحصل في الدماغ باعتباره قائد تلك الأوركسترا من المتغيّرات الجسدية والنفسية والسلوكيّة، إضافة إلى ما يحصل فيه بالذات. وترد تفاصيل ذلك لاحقاً.

 البداية: تخلّي العائلة عن «الطفل»

ومن المستطاع تلخيص المعطيات السابقة عبر النظر إلى متغيّرات المراهقة كأنها سلسلة تتألّف حلقاتها من المعطيات الجسدية، المعرفيّة، الجنسيّة، الروحيّة، العاطفيّة، الاجتماعيّة، النظرة إلى القيم ونوعيتها وطريقة التعامل معها، وأزمة الهويّة التي تكاد تكون عنواناً مختصراً لإشكاليّة المراهقة. أليست خروجاً من هوية الطفل إلى هويّة الفرد البالغ وبلورة شخصيّته، مع تملّكه زمام نفسه ومساره ومسؤوليّاته وخياراته؟

وهناك شيء أساسي كثيراً ما يجري إهماله في كثير من المقاربات عن المراهقة، وهي أنّ نقطة البداية فعليّاً في تلك المرحلة تتمثّل في حدوث انقطاع مفاجئ وحاسم في رعاية الأسرة لـ «الطفل» الذي كان معتمداً عليها بصورة شبه تامة. وبذا، يكون انقطاع ذلك النوع من الرعاية والاحتضان هو أول ما يتوجّب على المراهق أن يتعامل معه. لم يعد ذلك الذي تتولّى الأم رعاية جسده بالتلقيحات مثلاً، وبالرعاية الكاملة عند أدنى مرض يلم به. صار مسؤولاً عن طريقة غذائه، ويتحمّل نتائج خياراته في تناول المأكولات والمشروبات، إضافة إلى تصرّفاته بين المجتمع والناس. ولكن، تشير إحصاءات «منظمة الصحة العالميّة» إلى أنّ حوادث السيّارات تحتل مقدم أسباب الوفيّات في سني المراهقة، كما باتت الكآبة المرضيّة السبب الأكثر شيوعاً لتأخر الأداء الفردي (على رغم صورة شائعة عن الكآبة بأنها تكثر بداية من منتصف العمر)، وينتشر الإدمان على التبغ (السجائر والنرجيلة) فيصيب 9 من كل 10 قبل سن الثامنة عشرة، إضافة إلى معاناة السمنة التي يصاب بها مثلاً واحد من كل خمسة مراهقين في الولايات المتحدة.

وفي لبنان، تشير أرقام دراسة عن المراهقين تشاركت بها «وزارة الصحة» و «منظمة الصحة العالميّة» و «المركز الطبي- الجامعة الأميركيّة في بيروت»، إلى أنّ ربعهم يعاني اضطرابات عاطفيّة ووجدانيّة متنوّعة، فيما لا يتلقّى علاجاً مناسباً سوى 6 في المئة ممن هم بحاجة إليها. وكذلك تعاطى عشرون في المئة منهم شراباً كحوليّاً على الأقل في الشهر الذي سبق الدراسة التي عرضت نتائجها مطلع العام الحالي. وبيّنت الدراسة أيضاً أنّ 15 في المئة من المراهقين يعانون زيادة في الوزن، وتحدّث قرابة ثلثهم عن تعرّضهم لأحد أشكال التنمّر Bullying (بما فيه عبر الإنترنت والخليوي). وينتشر تدخين التبغ بينهم (سجائر و/أو نرجيلة) بقرابة عشرين في المئة.

+ -
.