رجال وقفوا وراء اكتشاف اسرار الحضارة الآشورية

ظلت مدينتان قديمتان، تحويان كنوز الحضارة الآشورية، مدفونتين لنحو 2500 عام، إلى أن تم التنقيب عنهما وكشفهما منذ نحو 170 عاما، قبل أن تتعرضا للتدمير على أيدي تنظيم الدولة الإسلامية في العراق.

ويمكن القول إن التنقيب عن الآثار الآشورية مهد الطريق أمام تنظيم الدولة لتحطيم ما تبقى منها، لكنه أدى أيضا إلى ضمان الحفاظ على بعض كنوز هذه الحضارة الغابرة.

في عام 1872 ، قضى رجل يدعى جورج سميث ليالي معتمة في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، في حجرات المتحف البريطاني يتفحص في رقيم طيني مكسور.

وكان هذا الرقيم واحدا من آلاف القطع التي عثر عليها في التنقيبات حينها في شمال العراق، وكانت ممتلئة بنصوص كتبت بحروف مسمارية معقدة، استخدمت قديما في بلاد الرافدين، وفكت رموزها خلال حياة سميث.

ويوضح بعض هذه الرقم شؤون الحياة اليومية، للمحاسبين والموظفين في الدولة الآشورية، وتفاصيل أمثال انكسار عجلة إحدى العربات أو تأخر وصول شحنة من الأرز والقار، بينما سجلت ألواح أخرى انتصارات جيوش الملك الآشوري، أو تعاويذ الفأل التي تنبأ بها كهنته ووضعوها في أحشاء خروف قدم كقربان.

لكن الرقيم الذي كان سميث يدرسه كان يحكي قصصا، إحداها عن العالم الذي غرق بسبب الطوفان، وأخرى عن رجل بنى سفينة، وعن حمامة أطلقت لكي تبحث عن أرض جافة.

وأدرك سميث أنه يقرأ في نسخة من قصة سفينة نوح، لكن الكتاب لم يكن سفر التكوين. إنها ملحمة جلجامش، وهي قصيدة ملحمية نقشت لأول مرة على ألواح من الطين الرطب عام 1800 قبل الميلاد، أي نحو 1000 سنة قبل كتابة التوارة اليهودية (العهد القديم في المسيحية)، وحتى رقيم سميث الذي يعود الى حوالي القرن السابع قبل الميلاد يعد أقدم بكثير من المخطوطات المبكرة لسفر التكوين.

وبعد نحو شهر من ذلك، وفي الثالث من ديسمبر/ كانون الأول، قرأ سميث ترجمة هذا النص على أعضاء جمعية علم آثار الكتاب المقدس.

وكان من بين من حضروا للاستماع رئيس الوزراء حينها ويليام غلادستون، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يستمع فيها جمهور إلى ملحمة جلجامش طيلة أكثر من 2000 عام.

وأثارت قراءة سميث ضجة، فتعامل معها البعض بقناعة دينية، عادا اياها إثباتا للحقيقة الجوهرية التي جاء بها الكتاب المقدس، ولكن ثمة من رآها أكثر إثارة للقلق.

إذ صدَّرت صحيفة نيويورك تايمز صفحتها الأولى في اليوم التالي بمقال، يقول عنوانه إن رقيم الطوفان يكشف “تراثا مختلفا عن الطوفان بعيدا عن ذلك الذي ورد في الكتاب المقدس، الذي ربما يكون أسطوريا مثل البقية “.

وبعد أقل من 15 عاما من نظرية داروين عن أصل الأنواع، جاءت ملحمة جلجامش لتبدو للعديدين أشبه بصدع كبير في صرح المسيحية في العصر الفيكتوري.

وبدأت قصة العثور على رقيم الطوفان في مكان يسمى تل كوسينجق وهو أحد الأماكن الأثرية التي يحفر فيها تنظيم الدولة الآن بحثا عن الآثار الآشورية.

وجاءت هذه القصة في كتاب للبروفيسور ديفيد دامروش من جامعة كولومبيا بعنوان “الكتاب المدفون: فقدان وإعادة اكتشاف ملحمة جلجامش العظيمة”.

وتقع بلدة كويسنجق قبالة مدينة الموصل على الضفة الأخرى من نهر دجلة، وكانت منذ نحو 2700 عاما جزءا من مدينة نينوى آخر عاصمة للأشوريين.

وكانت الدولة الآشورية امبراطوية واسعة، امتدت في أوج مجدها من شواطئ الخليج إلى جبال الأناضول في تركيا وسهول مصر.

وطيلة ثلاثمائة عام، ما بين عامي 900 إلى 600 قبل الميلاد، كانت الحضارة الأشورية الحضارة الأكثر تقدما على الإطلاق في تلك العصور، وقوة تكنولوجية كبرى استندت إلى ثروات تجارها وبأس جيوشها.

وعثر على نقش في تل كويسنجق يظهر الملك الآشوري آشور بانيبال، يتنزه في حديقته بينما يتدلى رأس عدوه ملك عيلام تيومان المقطوع من أحدى الأشجار.

لكن الحضارة الآشورية لم تكن منيعة على الغزوات، ففي عام 612 قبل الميلاد اجتيحت نينوى ودمرت تدميرا كاملا في تمرد قاده البابليون، وأضحت أغنى مدينة في العالم حينها أنقاضا.

وسقط سكان نينوى قتلى أو أسروا عبيدا، وغطى التراب بقايا مكتبة الملك الراحل أشور بانيبال، ونسخته المكتوبة بعناية من ملحمة جلجامش.

وبعد نحو ألفين وخمسمئة عام من ذلك التاريخ، وفي شتاء عام 1853 رفع رجل يدعى هرمز رسام هذه القصيدة الملحمية من وسط التراب.

نشأ رسام في مدينة الموصل على الضفة الأخرى من النهر. وفي ذلك الحين الذي كانت القوى الاستعمارية تنظر فيه إلى السكان المحليين على أنهم ليسوا أكثر من عمال زراعيين، أو اناسا يغطون في الجهل، عين رسام من قبل المتحف البريطاني، ليقود أهم عملية تنقيب عن الآثار في ذلك العصر، وأصبح بشكل أو بآخر أول آثاري يولد وينشأ في الشرق الأوسط.

وكانت عائلة رسام من المسيحيين الكلدان، أحفاد الآشوريين القدماء، الذين اعتنقوا المسيحية في القرن الرابع، وظلوا مختلفين اثنيا عن سكان العراق من العرب والأكراد.

وهذه هي المجموعة الاثنية نفسها، التي أجبرها مسلحو تنظيم الدولة خلال العام الماضي على اعتناق الإسلام، أو دفع ضريبة خاصة تسمى الجزية في الإسلام، وإلا يتعرضوا للقتل.

وهرب معظم المسيحيين الأشوريين من الموصل باتجاه الشرق أو الشمال إلى المناطق الكردية، التي تتمتع بالحكم الذاتي، أو عبروا الحدود باتجاه تركيا.

حينما كبر رسام، كانت الموصل مكانا هادئا، وكانت هذه المدينة جزءا من الإمبراطورية العثمانية التي كانت تضمحل تدريجيا، وهذه المدينة، التي كانت مساحة خلفية منعزلة، لم توفر كثيرا من الفرص لشاب يتمتع بالطاقة والموهبة.

لكن في عام 1845 التقى رسام بشخص ما غير مسار حياته، وهو أوستن هنري لايارد. كان رسام يبلغ من العمر حينها 19 عاما.

وكان لايارد مستكشفا وصل إلى الشرق الأوسط على ظهر الخيل في نهاية الثلاثينات من القرن السابع عشر مسلحا بمسدسين والكثير من الأموال.

وخلال الفترة التي وصل فيها إلى الموصل، كان لايارد قد شاهد بالفعل معبدي بترا وبعلبك بالإضافة إلى مدينتي دمشق وحلب النابضتين بالحياة، لكن آثار العراق غير المكتشفة هي التي استحوذت على لبه.

وكتب لايارد قائلا: “غموض كبير يخيم على آشور وبابل وكلدو (ارض الكلدانيين)، فقد ارتبطت هذه الأسماء بأمم عظيمة ومدن عظيمة…..السهول التي ينظر إليها اليهودي وغير اليهودي على حد سواء على أنها مهد سلالتهم”.

وأضاف:”مع غروب الشمس، رأيت للمرة الأولى تل نمرود المخروطي الكبير وهو يرتفع في مواجهة السماء الصافية وقت الليل، وكان التل يقع في الجانب الآخر من النهر. والانطباع الذي ولده لدي (هذا التل) لا يمكن نسيانه أبدا.الفكرة التي كانت تخطر ببالي باستمرار هي إمكانية الاستكشاف الكامل لتلك الآثار العظيمة باستخدام المجرفة”.

وبعد سنوات من التفاوض مع السلطات العثمانية، أدخل لايارد في نهاية المطاف مجرفة إلى التل في منطقة آثار نمرود، التي تبعد 20 ميلا جنوب الموصل، في صيف عام 1845. وهذا هو الموقع الذي بدأ فيه تنظيم الدولة الإسلامية أعمال التجريف في وقت سابق من هذا الشهر، بحسب مسؤولين عراقيين.

في أول يوم من أيام الحفر، عثر لايارد على حدود أولية لأحد القصور الملكية، وبعد اسبوع بدأ استخراج الألواح الضخمة من المرمر والتي كانت مصفوفة على جدرانه، وهي الألواح التي صورت قوة الملك الآشوري والخنوع الذليل من جانب أعدائه.

وخلال ثلاث أو أربع سنوات، اكتشف لايارد الحضارة الآشورية القديمة، التي لم يكن يعرف عنها حتى ذلك الحين سوى اسم مذكور في صفحات الكتاب المقدس، وملأ المتحف البريطاني بالنقوش والكتابات من المكان الذي شهد مهد الحضارة المدنية.

وحينما نشر قصة تنقيباته في عام 1849 في كتاب “نينوى وآثارها”، أصبح هذا الكتاب بسرعة أحد الكتب الأكثر مبيعا.

لكن باعترافه، لم يكن من الممكن إنجاز أي من هذه الأشياء بدون هرمز رسام.

ربما عرف المستكشف البريطاني كيفية الحصول على تمويل من أمناء المتحف البريطاني، لكن رسام هو من عرف كيفية التعامل مع القرويين في شمال العراق، والتحدث باللغة العربية والتركية والآرامية السريانية، لغة المسيحيين الآشوريين.

لقد كان رسام هو الشخص الذي عرف كيف يمكن التفاوض مع شيخ قبلي، وكيفية رشوة حاكم محلي بهدية من القهوة، وكيفية استئجار 300 عامل لجر تمثال ضخم لثور مجنح إلى نهر دجلة وتعويمه على مجموعة كبيرة من الألواح الخشبية وقرب جلد الماعز المنفوخة.

ولم يتمكن رسام ولايارد من شحن كل شيء إلى المتحف البريطاني،كما كانا يرغبان. ومن بين المواقع التي جرى التنقيب فيها كانت بوابة نيرغال في السور الشمالي لنينوى، وهي البوابة ذاتها التي وقف عندها أحد مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية ليصور خطبة عصماء ضد الشرك وعبادة الأصنام التي كانت سائدة في عصر ما قبل الإسلام.

يحيط بالبوابة ما وصفه لايارد في كتابه عام 1835 بعنوان “اكتشافات ما بين آثار نينوى وبابل” “زوج مهيب من الثيران برأسي إنسان، بطول أربعة عشر قدما مترا لكل واحد منهم ولا يزالان بكامل هيئتهما رغم وجود بعض الشقوق وآثار الحريق”.

وكانت هذه الثيران المجنحة المعروف باسم “لاماسو” توضع عند بوابات المدن الآشورية لترهيب الأعداء وإبعاد الأرواح الشيطانية، لكنها لم تبعد المخربين من أفراد تنظيم الدولة الإسلامية، الذين حطموا وجه لاماسو بآلة حفر.

وبعد أن نجحا معا في إنقاذ آشور من النسيان، كون لايارد ورسام صداقة امتدت طوال حياتهما. وحينما كان لايارد، مثل الكثيرين من المستشرقين الأوروبيين، يحرص على ارتداء الملابس الشرقية وسط شعور بالابتهاج، كان رسام يبذل قصارى جهده لتقديم نفسه كرجل انجليزي في عهد الملكة فكتوريا.

وجاب رسام سهول العراق وهو يرتدي صدرية وسترة، واعتنق المذهب البروتستانتي، الذي وصفه بأنه “الديانة النقية لبريطانيا العظمى”. ودرس رسام في اوكسفورد 18 شهرا، حيث تعلم التزلج على الجليد. وكتب الى صديقه لايارد “أفضل أن أكون منظف مداخن في انكلترا على أن أكون باشا في تركيا”.

وكانت التنقيبات الأثرية تعتمد بقوة على رسام، إلى الدرجة التي جعلت المتحف البريطاني يعين هذا الشاب العراقي لمواصلة عمليات التنقيب بمفرده بعد تقاعد لايارد عن العمل في مجال علم الآثار وتحوله إلى دبلوماسي وسياسي ببريطانيا. وبعد عودته إلى الموصل، أظهر رسام تفانيا مذهلا لخدمة مصالح بلاده الجديدة التي اختار العيش والإقامة فيها.

وكان علم الآثار جزءا مركزيا في هذه المصالح. إذ تنافس البريطانيون مع الفرنسيين للاستحواذ على آثار العالم القديم على امتداد منطقة أعالي نهر دجلة.

وكان أول من بدأ الحفر في نينوى رجل فرنسي يدعى “بول اميل بوتا”. ورغم أن بوتا أوقف أعمال الحفر في نينوى للتركيز على قرية “خورس آباد” القريبة، إلا أنه ظل ثمة إدراك على نطاق واسع بأن هذا الموقع لا يزال في دائرة النفوذ الفرنسي.

وعلى الرغم من كون رسام في موطنه الأصلي، وعلى الضفة المقابلة للمدينة التي نشأ فيها، لكنه لم يشهد نقل كنوز نينوى، مثل خورس آباد، إلى متحف اللوفر بفرنسا.

ودون الحصول على أي إذن رسمي، وعبر العمل تحت جنح الظلام، كان رسام وفريقه يحفرون في الزاوية الشمالية من تل نمرود.

وفي ديسمبر/كانون الأول عام 1853، أي بعد حوالي أسبوع من أعمال الحفر، انهار جزء ضخم من الأرض وسمع رسام رجاله يصرخون “صور!”.

وهناك، في ضوء القمر، كانت هذه الألواح الحجرية التي نقشت قبل أكثر من 2500 عام لغرف ملك الآشوريين آشور بانيبال (الذي حكم خلال الفترة من 668 وحتى 627 قبل الميلاد).

يقول جون كيرتيس، رئيس المعهد البريطاني لدراسة العراق إنه فن آسر عال الجودة، فالمشاهد التي تصور مطاردة أسد في سهول بلاد الرافدين، وحيوانات تصاب بسهام الملك، مناظر مفعمة بالدراما على نحو يتفوق على جميع النقوش التي عثر عليها سابقا في منطقة الشرق الأوسط.

ويضيف “يعود تاريخ مناظر مطاردة الأسد إلى الفترة الأكثر تطورا في الفن الآشوري، إذ صورت الأسود بطريقة رائعة، نابضة بالحياة والتفاصيل الطبيعية. إنها أفضل أعمال النحت البارز(على الجدران) الآشورية”.

وإذا لم تحتو تلك الألواح الحجرية الا على مشهد مطاردة الأسد فقط، فذلك يكفي ليضع قصر آشور بانيبال على قائمة أهم الاكتشافات الأثرية في القرن التاسع عشر. بيد أن بقايا رقم مكتبة آشور ناصر بال كانت تتناثر على أرضية القصر. وقد كتب رسام :”بين هذه الرقم (المكتشفة)عُثر على قصص كلدانية للخليقة والطوفان”. واستطاع رسام، على الرغم من جهله قراءة النصوص المسمارية ولم يكن قد تعلم فك شفراتها، أنه عثر على رقيم قصة الطوفان.

وصلت الصناديق التي تحتوي على مكتبة آشور بانيبال إلى لندن في الوقت الذي كان يغادر فيه جورج سميث المدرسة. ومثل رسام، لم يكن سميث عضوا في المؤسسة الفيكتورية، فقد ولد لأسرة تنتمي إلى الطبقة العاملة، وبدأ في سن الرابعة عشرة العمل متدربا في مؤسسة لسك العملات النقدية. وكان الصبي رساما جيدا، لكن بمرور الوقت بدأ عمله، وتأثر خياله فعلا بمغامرات لايارد الجسور والآثار التي وصلت من نمرود ونينوى.

وبحلول منتصف خمسينيات القرن التاسع عشر، زار سميث أروقة المتحف البريطاني، وشاهد الرقم المسمارية التي كانت تأتي من قصور الملوك الآشوريين.

وعندما بلغ العشرين من عمره في عام 1860 كان سميث قد بدأ فهم المخطوطات المسمارية واللغة الآكادية التي كتب بها معظم الرقم.

وكان سميث يتمتع بذاكرة بصرية حادة، وأعاد تجميع وفك رموز سطور حواها نص غير صالح للقراءة تقريبا من بين مئات القطع المهشمة.

ولم يمض وقت طويل حتى استطاع سميث، الذي لم يلتحق بالجامعة ولم يغادر بريطانيا، الوصول إلى أهم اكتشاف في تاريخ وأدب الأمبراطورية الآشورية.

تشجع سميث باعتراف زملائه من خبراء علم الآشوريات بجهده، لكن ما كان يريده بحق هو شئ سيجعل اسمه ذائع الصيت، وهو شيء ما يعادل رحلة استكشافية إلى العراق.

في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1872 وبينما كان يتهجأ سطور قصيدة رقيم الطوفان سطرا بعد سطر، شعر أنه توصل إلى اكتشاف ما. وكان سميث فرحا جدا، فكتب الى أحد زملائه بأنه “يدور في الغرفة” وأنه من “دهشه اكتشاف هذه الهدايا، بدأ في خلع ملابسه”.

وبعد شهرين، وبفضل منحة مالية قدمتها صحيفة “ديلي تيلغراف” وقدرها ألف جنيه استرليني، ذهب جورج سميث إلى العراق لاستئناف أعمال التنقيب الأثرية التي بدأت من قبل.

كافح سميث من أجل التكيف مع ارتفاع درجات الحرارة وفظاعة الأعمال التي ترتكبها الإمبراطورية العثمانية. إذ كان ينقصه توهج سميث و فراسة رسام في التعامل مع الشارع. ويقول ديفيد دامروش إنه “كان يشعر بالرعب من مستوى اجراءات النظافة الصحية، ويشمئز من منظر الكباب، وكان بريئا جدا ولا يستطيع دفع (بخشيش) صغير يسهل تحويل أي شيء”.

بيد أن جورج سميث كان بلا شك عبقريا، وقبل وفاته بسبب اصابته بالزحار (الديسنتري) في حلب عام 1876، عن عمر ناهز 36 عاما فقط، كان قد نشر ثمانية كتب أساسية عن تاريخ الحضارة الآشورية ولغتها، فضلا عن عشرات الكشوف الآثرية الرئيسية، و أماط اللثام عن أول أعظم عمل أدبي في العالم.

وعقب وفاة سميث، اعيد استدعاء رسام للعمل في المتحف البريطاني. حيث واصل العمل لاكتشاف مدينة سيبار البابلية والتنقيب فيها للكشف عن الأبواب البرونزية العظيمة لقصر بلاوات، كما إرسل أكثر من 70 ألف لوح مسماري إلى لندن.

وكانت هذه الاكتشافات كافية لتجعل منه ذائع الصيت، ولكن انتهاء آخر بعثاته العلمية في ثمانينيات القرن التاسع عشر، محي اسم هرمز رسام من السجل.

ونسب السير هنري راولينسون، الذي كان يشغل منصب القنصل البريطاني في بغداد وقت إجراء رسام تنقيباته في نينوى، اكتشاف قصر آشور بانيبال لنفسه. وكتب قائلا إن رسام كان مجرد”حفار” يشرف على العمل. والأكثر إهانة من ذلك هو ما لمح به أحد أمناء المتحف البريطاني بأن رسام استفاد من تجارة الآثار غير المشروعة التي ازدهرت نتيجة التنقيبات في العراق.

لقد تعرض رسام، الذي كان معجبا جدا بسلوك النخبة الفيكتورية، ووهب مجمل حياته المهنية لخدمة الامبراطورية البريطانية، إلى جرعة كبيرة من المعاملة المتعجرفة والعنصرية والازدراء. ولم يجد ناشرا بريطانيا لمذكراته، وبوفاته في منزله في هوف عام 1910، كان حتى اسمه أزيل من الالواح المعدنية ودليل إرشاد الزائرين بالمتحف البريطاني.

وكان الانجليزي الوحيد الذي وقف إلى جانب رسام هو صديقه القديم لايارد، الذي كتب يقول إن رسام “أحد أكثر الزملاء الذين عرفتهم شرفا واستقامة، ورجل لم يتم الاعتراف على الإطلاق بما قدمه من خدمات”.

وتقول الدكتورة لمياء الجيلاني، عالمة الآثار عراقية في جامعة كوليج لندن :”مازالوا يذكرون رسام في الموصل، إنهم فخورون به جدا”.

وفي بريطانيا ،على الرغم من أنه لم يرد الاعتبار لسمعته بشكل كامل، تطور علم الآثار بعد جيل من مغادرته الميدان، ليصبح علما منهجيا، وبحثا علميا عن المعرفة وليس تدافعا امبرياليا جشعا للحصول على الكنوز. فكل قدم من الأرض تم نخله والبحث فيه الآن وجمعت كل بذرة في الارض أو سن وجد فيها، وقيست كل قطعة فخار عثر عليها وحللت.

أما لايارد ورسام، اللذان دفعتهما السلطة الأمبريالية لانتشال تحف فن بلاد ما بين النهرين قبل الفرنسيين، ذهبا ليجرفا الجدران الطينية من المباني القديمة حتى من دون أن ينتبها إليها، ولم يحتفظا إلا بسجلات بدائية جدا، وخاضا بعنف في المواقع التي لو كانا قد عملا فيها ببطء أكثر وبطرق أكثر منهجية لكان من الممكن أن يقدما ثروة معرفية كبيرة عن حياة الآشوريين. ووفقا لمعايير علم الآثار الحديث، فأنهما لم يكونا أكثر من صائدي كنوز مدفوعي الأجر من المتحف البريطاني.

وتضيف الجيلاني :أن “الأمر عاطفي بالطبع، بالنسبة للعراقيين”، لزمن طويل ظلوا يأتون إلى المتحف البريطاني ويرون هذه القطع الأثرية ويشعرون أنها يجب أن تعاد الى العراق، “لكنهم يلزمون الصمت في الوقت الحالي، لأنهم يرون ما يحدث بالعراق ويقتنعون أن هذه الأشياء حفظت آمنة على الأقل في المتحف البريطاني وفي اللوفر”.

وليس الجميع على استعداد لتبرئة القوى الاستعمارية. ولكن بالنسبة لجميع الكنوز التي نقلها لايارد ورسام من بلاد ما بين النهرين، كانت ثمة خطوط لم يعبروها.

وعلى تلين أثرين صغيرين من تلال نينوى القديمة كان ثمة ضريح، يدعى السكان المحليون أنه للنبي يونس، ويقولون أنه كان المكان الذي دفن فيه النبي يونس (يونان).

وظل سكان الموصل، من المسملين والمسيحيين، يصلون لقرون في هذا المكان ويزورونه، وقد عرف كلا من لايارد ورسام أن في هذا الموقع يقع فوق قصر ملكي أشوري، لكنه كان مكانا مقدسا دينيا ولا يمكن تدنيسه.

لكن تنظيم “الدولة الإسلامية” لم يكن لديه مثل هذا الوازع. ففي 24 يوليو/ تموز 2014، فجر مقاتلوه ضريح النبي يونس بالمتفجرات ليحطموه قطعا صغيرة تسببت في ظهور سحابة الركام في سماء الموصل.

وأخذ اللصوص الذين يعملون لحساب تنظيم “الدولة الإسلامية” يحفرون في أطلال الضريح المدمر.

ووفقا لنائب وزير السياحة والآثار العراقي قيس حسين راشيد، فإن القطع الفنية التي خرجت من الموقع وصلت عبر التهريب إلى أيدي تجار في أوروبا.

وهناك مئات المواقع الآثرية تحت سيطرة “الدولة الإسلامية” الآن. لكن تحت أنقاض النبي يونس ثمة أرض ممتدة لم تصل إليها أيدي علماء الآثار، تلك الأرض التي تضم قصر الملك الآشوري أسرحدون، والذي ربما يحتوي على بعض الكنوز الفنية أو الأدبية العظيمة من العالم القديم.

وفي كل الأحوال، فإننا لن نعرف هذا.

تعليقات

التعليقات مغلقة.

+ -
.