ردّة عربية إلى الجاهلية

(الردة العربية إلى العصر الجاهلي بدأت مع سايكس – بيكو عندما أسس الاستعماران البريطاني والفرنسي لحكم تتوارثه القبيلة أو العائلة أو الطائفة، وعندما انتصرت حركة التحرر الوطني العربية في “جمهوريات” لا تحكمها القبيلة أو العائلة أو الطائفة، سرعان ما جنحت أنظمة الحكم العسكرية فيها إلى “التوريث”)

بقلم نقولا ناصر*

إن تفكيك الجيوش الوطنية، وإضعاف الحكم المركزي باستبداله بأنظمة حكم “فدرالية”، وتدمير البنى التحتية هي قواسم مشتركة لما يحدث في العديد من الأقطار العربية منذ بضع سنوات، ما قاد إلى انهيار “الدولة” القطرية أو تحولها إلى “دولة فاشلة”، وإلى النكوص إلى الطائفية والقبلية والجهوية والعرقية التي يأخذ بعضها بخناق البعض الآخر في حروب “أهلية” تشرع الأبواب على مصاريعها أمام التدخل الأجنبي والاستقواء به.

وهذا وضع يرقى إلى الردة إلى العصر الجاهلي الذي أنهاه الإسلام بتوحيد الأمة العربية وانطلاقها إلى العالم الفسيح حاملة رسالته الموحدة المتسامية فوق القبائل والعائلات والطوائف والمذاهب والأعراق والأحزاب.

وهذه الردة العربية إلى العصر الجاهلي هي المسؤولة عن التهميش العربي الرسمي الراهن للقضية الفلسطينية، فقد أصبح الحفاظ على بقاء حكم القبيلة أو العائلة أو الطائفة أو المذهب أو العرق أو الحزب يحظى بالأولوية على مركزية فلسطين في سلم الأولويات العربية الرسمية والشعبية.

قبل عام من الغزو فالاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، عرّف روبرت آي. روتبيرغ “الدولة الفاشلة” في مقال نشرته مجلة “فورين أفيرز” في عددها لشهري تموز/ يوليو – آب/ أغسطس كما يلي:

“الدول الفاشلة متوترة ومأزومة وخطرة، وهي بصفة عامة تشترك في الخصائص التالية: ارتفاع في العنف الجنائي والسياسي فيها، وفقدانها السيطرة على حدودها، وتصاعد العداوات العرقية والدينية واللغوية والثقافية، والحرب الأهلية، واستخدام الإرهاب ضد مواطنيها، وضعف مؤسساتها، وتدهور بناها التحتية أو عدم كفايتها، والعجز عن جمع الضرائب من دون إكراه، وارتفاع مستويات الفساد، وانهيار النظام الصحي، وارتفاع مستويات وفاة الأطفال وانخفاض معدل العمر، وانتهاء فرص التعليم النظامي، وانخفاض معدلات حصة الفرد من إجمالي الناتج الوطني، وتصاعد التضخم، وتفضيل العملات غير الوطنية على نطاق واسع، والنقص في المواد الغذائية الأساسية ما يقود إلى المجاعة”، و”تصاعد الهجوم على شرعيتها الأساسية”، و”تناقص الولاء للدولة”، و”اختفاء الحس السياسي للمجتمع وشعور المواطنين .. بالتهميش”، والنتيجة هي: “أن يحول المواطنون ولاءهم لأمراء حرب الطوائف، فتعم الفوضى داخليا، ويصبح ظهور الجماعات الإرهابية محتملا أكثر”.

أليس كل ذلك هو ما يحدث منذ عام 2011 بخاصة في “جمهوريات” العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا بينما بوادر أعراضه تبدو واضحة في الكثير من “الملكيات” العربية!

في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي كان السفير الأميركي الأسبق لدى المملكة العربية السعودية ومؤلف كتاب “مغامرات أميركا الفاشلة في الشرق الوسط”، شاس فريمان، هو المتكلم الرئيسي في “المؤتمر السنوي الثالث والعشرين لصناع السياسات العرب” في واشنطن العاصمة فقال إن “الغزو الأميركي للعراق أطلق عربدة عدم التسامح والقتل الطائفي .. ليهدد وجود الدول الأخرى التي خلقها اتفاق سايكس – بيكو قبل قرن من الزمان. إن ظهور داعش ( الدولة الإسلامية) هو نتيجة الفوضى التي نتجت عن المحاولات الغربية لتغيير الأنظمة” في الدول العربية، بحيث “يوجد لدينا الآن قطعة من جهنم تتسع حاليا في هذا الجزء من الكرة الأرضية”.

وفي الواقع الراهن ليس “قطعة من جهنم” فقط قد سقطت على الوطن العربي كما قال السفير الأميركي فريمان بل تبدو “جهنم فارغة وكل الشياطين موجودة هنا” كما قال الكاتب البريطاني الشهير وليام شكسبير قبل قرون.

في مقال له في الثلاثين من كانون الأول/ ديسمبر المنصرم اعتبر جورج فريدمان مؤسس ومحرر موقع “ستراتفور” وثيق الصلة بالمخابرات الأميركية أن ما وصفه ب”تفكك عالم سايكس – بيكو”، حيث “الحكومات المركزية تنهار وأمراء الحرب الذين يمثلون جماعات مختلفة يسيطرون على أجزاء من البلاد بينما تجتاز الصراعات الحدود الدولية”، هو مسألة “أهم كثيرا من ظهور الدولة الإسلامية”، ليتساءل: “هل سوف يستمر التفكك؟ وهل تنتشر عملية التفكك هذه إلى ورثة سايكس – بيكو الاخرين؟ إن هذا السؤال أهم كثيرا من ظهور الدولة الإسلامية”.

إن “تفكيك عالم سايكس بيكو” كان وما زال هدفا شعبيا للحركة القومية الساعية إلى وحدة الأمة العربية، وهدفا كذلك لحركات الإسلام السياسي الساعية إلى وحدة الأمة الإسلامية.

لكنه كان وما زال أيضا هدفا للأطماع الغربية في الوطن العربي ولدولة الاحتلال الإسرائيلي من أجل تفتيت دول التجزئة العربية التي خلقها سايكس وبيكو كضمان ضد أي قوة عربية موحدة يمكنها أن تهدد أطماعهما في المنطقة.

فعندما دشن ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لدولة الاحتلال الإسرائلي، مفاعل ديمونا النووي عام 1963 قال: “ليس هاما أن نمتلك قنبلة نووية أو حتى 200 رأس نووية لأنها لن تفيدنا، ومن الأفضل تحييد مصر وسوريا والعراق لضمان وجودنا”، وهو ما يجري حاليا في هذه الدول العربية الثلاث وفي غيرها.

وفي الحقيقة أن هذه الردة العربية إلى العصر الجاهلي بدأت مع سايكس – بيكو عندما أسس الاستعماران البريطاني والفرنسي لحكم تتوارثه القبيلة أو العائلة أو الطائفة، وعندما انتصرت حركة التحرر الوطني العربية في “جمهوريات” لا تحكمها القبيلة أو العائلة أو الطائفة، سرعان ما جنحت أنظمة الحكم العسكرية فيها إلى “التوريث” فكان ذلك من عوامل الأزمات الراهنة التي تهدد الآن بانهيارها أو بتحولها إلى دول “فاشلة.

مع أنه لا وراثة في الحكم في الإسلام، جمهوريا كان أم ملكيا، فالأمر “شورى بينهم”، فحتى النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) لم يعرف عنه أنه أوصى بالخلافة في “أهل البيت” لا مباشرة ولا ب”ولاية فقيه” تنوب عنهم، ناهيك عن عدم وجود توريث للحكم في أي أنظمة تدعي الحد الأدنى من الديموقراطية.

ولم يتخل الوريث الأميركي عن إرث الاستعمارين البريطاني والفرنسي في تجزئة الوطن العربي وتفتيته.

في مقابلة له مع “فوكس نيوز” في التاسع والعشرين من آذار/ مارس الماضي كشف مايكل فلين، الفريق المتقاعد والمدير السابق لوكالة الاستخبارات العسكرية في إدارة باراك أوباما، سياسة بلاده تجاه هذا الوضع العربي عندما وصفها ب”الجهل الإرادي” الذي “تنحاز فيه” الولايات المتحدة للعربية السعودية و”المسلمين السنّة” في بعض الحالات ثم تنحاز إلى إيران و”المسلمين الشيعة” في حالات أخرى، ليلاحظ بأن “النظام القديم قد انهار تماما في الشرق الأوسط” بينما “يكافح شرق أوسط جديد أساسا كي يولد”، وعندما سؤل عن الوقت المتبقي لاندلاع “حرب إقليمية طائفية” في المنطقة أجاب: “نحن لسنا قريبين منها. إننا هناك .. فهذا هو ما يجري حاليا”.

إنها “الفوضى الخلاقة” التي تغذيها الولايات المتحدة بما وصفه فلين ب”الجهل الإرادي” لصياغة شرق أوسط جديد له منظومة إقليمية غير جامعة الدول العربية تكون فيها دولة الاحتلال الإسرائيلي هي الدولة الوحيدة غير “الفاشلة” في المنطقة.

إن مشروع القرار الذي كان من المقرر أن تصوت عليه لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي قبل يومين للتعامل مع “السنّة” و”الأكراد” في العراق ك”بلدين” في معزل عن الحكومة المركزية في بغداد تزامن مع حرب “عاصفة الحزم” على اليمن التي يهدد استمرارها بتقسيم اليمن، وربما بتفتيته إلى سبع كيانات وفقا لخريطة قال مسؤول روسي كبير إنها عرضت على حكومة بلاده مؤخرا على ذمة “الأخبار” اللبنانية يوم الخميس الماضي.

لقد أعلنت الخارجية العراقية في بيان لها عن “رفضها الشديد” لمشروع القرار الأميركي، لكنها في البيان ذاته أعلنت أن “العراق حريص على الاستمرار في بناء علاقة تعاون استراتيجي مع الولايات المتحدة”. والتناقض في هذا الموقف غني عن البيان، فأي علاقات عربية استراتيجية مع الولايات المتحدة تتناقض تماما مع مقاومة الردة إلى العصر الجاهلي في الوطن العربي.

وهذا النوع من العلاقات العربية – الأميركية هو المسؤول عن الصراع الذي دار ويستمر بين دول عربية حاربت حركة الوحدة العربية باسم الإسلام وبين الحركة القومية العربية عندما أنشأت منظمة المؤتمر الإسلامي (منظمة التعاون الإسلامي حاليا) بمباركة أميركية في مواجهة حركة عدم الانحياز.

وهو المسؤول كذلك عن الصراع، مثلا، بين إيران التي تحارب باسم الإسلام هذا النوع من العلاقات وبين الدول العربية ذاتها التي تستعد للقاء تاريخي في كامب ديفيد مع البيت الأبيض الأميركي في الثالث عشر والرابع عشر من أيار/ مايو الجاري من أجل صياغة إطار جديد لعلاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة.

فهل يمكن حقا إخراج الانقسام الفلسطيني الحالي والوضع الراهن للقضية الفلسطينية من هذا السياق “الاستراتيجي” للعلاقات العربية – الأميركية!

* كاتب عربي من فلسطين

* nassernicola@ymail.com

+ -
.