سميح القاسم لم يكن صديقي !!!

أن تقول في بعض الناس أو تكتب عنهم ليس بالأمر السهل وسميح القاسم من هؤلاء الناس. أن تكتب أو تقول أساسا ليس بالأمر السهل فالكلمة هذه بنت “….” لها قدسيّة رهيبة تضاهي في قدسيتها رهبةَ الرهبان، وعقابها وثوابها معجّل غير مؤجل أحيانا ومؤجل غير معجل أخرى، والإنسان بطبعه عجول وأجول وفقا للسياق، ولولا جرعة نفاق زائدة نعاني منها لطال الكثيرين منّا، من الكلمة المُعاقِبة المعجِلة ما لا تًحمد عقباه، أما المعاقِبة المؤجِلة ف-“اهون الشرين”، أفلَسْنا نحن أمة ل-“يوم الله يعين الله”؟!
إن العنوان أعلاه يصغر عمرُه عمرَ سميح القاسم الجديد أياما قليلة، اعتلى شاشة حاسوبي يصارع عينيّ شاقّا طريقه بصعوبة إلى عقلي كلما فتحت الشاشة، عصيّا على الانطلاق. بِكرُ سميح القاسم، وطن محمد، قال لي في أحدى أمسيات السفر: “عمي سعيد انت ما حكيت ما بدّك تحكي؟” أجبته ببعض تردد: “الحكي عن سميح صعب وحتى يقدر يحكي الواحد عنه بحاجة لوقت طويل!”، ولكن ربّما أن ما كان كبّل لساني وشلّ عقلي هو قول كان قد قاله من بين بعض دموع، وضّاح، يوم تعانقنا ليلة الرحيل: “أبوي كان يحبّك!”، ربّما لهذا وكثرة الكلمات التي راحت تزخّ متداخلٌ بعضها في بعضها، لم أستطع أن أقول ولا أن أكتب في تلك الأيام وكثيرا بعدها.
أن تجد نفسك أصلا في هذه اللحظة رغم أنك كنت تدرك أنها آتية إلّا إذا شاءت فيكما الحياة أمرا آخر ولم تشأ، ليس سهلا أبدا، خصوصا وأنت الذي قبل أيام قليلة مضت كنت تشاركه وصديق عمره عصام صحن حمص “جرّك” إليه في مطعم شعبيّ في إحدى قرانا، والضحك كان على بعضٍ كثير من الكلام سيّد الموقف، وأنت مذهول بالبسمة التي لم تفارقه وهو يحكي ويحكي وإن قاطعه شغب عصام ردّ عليه ب-“طبّق بوزك” تحمل كل معاني الصداقة في زمن عزّت فيه الصداقة، هذا وكلام “وضاح” ما كانا على ما يبدو المسيطرين عليّ، فلم تسعفني نفسي يا “وطن” أن أقول أو أكتب كلاما يحمل بين طياته نهاية ما لم أردها وإن كانت حتميّة، ربّما احتجاجا على حتميتها أو غوصا في بدايتها.
يكبرني سميح بخمسة عشرة سنة، وعندما كان مضى على سطوع نجمه ومحمود سنوات، كنّا فتيانا في الثانويّة، قرّرنا ثلاثة منّا يوما أن نسافر إلى حيفا (طبعا بعد أن كان تكفّل أحدنا ممن كان الله أنعم على عائلته بالقسط الأكبر من المصروفات) لنرى هذا “المحمود” وهذا “السميح”، طبعا دون أي موعد، وشاءت الصدف أن نكون “مجدلاوي ومغاري وبيت جناوي”، من الصعب أن يذكر الإنسان كل التفاصيل، ولكن دخلنا مكتبا متواضعا وأعلنا غرضنا أمام من استقبلنا أو استقبلتنا ولم تمض دقائق حتى خرج إلينا شابان، كالشباب.
وإن أنسى لا يمكن أن أنسى تلك النظرة الباسمة على وسعها من سميح إلى محمود قائلا بعد أن قدمنا أنفسنا: “هذا هو شعبنا”. لم أفهم ما قصد لحظتها فهو لم يُفصح، وحتى لم أفهم بسمة محمود المخاطب يومها حين راح ينظر نحونا، وأتخيّل أن ما كان يسلب عقولنا ويأسر قلوبنا حينها أننا مع محمود وسميح بلحمهما ودمهما. لاحقا ولا أعرف متى وكيف فهمنا ما رمى إليه سميح، فقد كانت مؤامرة ضرب وحدتنا الوطنيّة حينها على أشدها، كما في أيامنا هذه بالمناسبة، لكن حينها كان الضارب من أعدائنا أما اليوم فيتكفل بها عنه من هم بين ظهرانينا، المهم فهمنا لاحقا أن الذي لفت نظر سميح أنّا كنّا الثلاثة وبالصدف من كامل نسيج شعبنا الوطنيّ.
الكلمات الكثيرة التي بدأت تُنثر يوم الولادة أخذتني بعيدا فيها وفي قائليها وفي شكلها وجوهرها إلى أماكن شتّى، وحطتني من بين ما حطتني في سميح المارد المتمرّد، وأعادتني إلى يوم خصّ فيه سميح القاسم أشهر قليلة قبل انتقاله، مجلّة التواصل بمقابلة خاصّة أملاها عليّ إملاء ساعات وسط احتجاج وضاح “لماذا ليس بالصوت والصورة”.
سألته: “هل يصح أن يُقال عن سميح القاسم أنه متمرّد لا يطيق طاعة الأنماط المقولبة؟”
فأجاب سميح: “يصح. التمرّد حالة ملازمة لي من طفولتي، ولكن تمردي لم يكن عشوائيا فوضويا (أنارخيست) بل حافظت دائما على مفهوم يقول: أنك لا تستطيع إصلاح المجتمع بعدائية كاملة معه بل بالتعامل الإيجابي مع ما هو إيجابي داخله.”.
دارت الأيام تأكل السنوات نهمة شرهة بعد تلك الزيارة الثلاثيّة، ، وتمرّدُ سميح الذي كان دفع ثمنه في ملاطمة مدّ أخذ أبناء شعبنا خوفا تلك الأيام، بدأ يؤتي أكلَه على ما يبدو فإذ بسميح عرضة لحملات حاولت أن تسيء له من حيث لا يُتوقع، وأقرّ وأعترف وليس هذ الإقرار وهذا الاعتراف جديدين على الأقل على ذوي القربى منّي، أني كنت من بين ضحايا هذه الحملات دون حتّى أن أحمّل نفسي حينها عناء التمحيص، تقاذفتني أمواج تلك الحملات من ناحيّة ومن الأخرى كلمات سميح التي ما زالت ترنّ في أذنيّ حتّى اليوم عن تلك “الخادمة” في أحد البيوت والتي أطارت صواب سميح ولم تكن أبدا القشّة التي قصمت ظهر الجمل في تمرّد المتمرّد وإنما استفزته حتى النخاع، وقصّة الخادمة هذه أمتنعُ عن كشفها لأنها رحلت معه دون أن يبوح بها إلا لقلّة على ما أعتقد، تسامحا منه وحبّا لم يقو عليه يوما كرهٌ، فلا أملك حقّا بالبوح بها خصوصا أني لم أصادفها في “مجرّد منفضته”.
ربّ قائل يقول: وما وجه مثل هذا الكلام في حضرة رحيل الرجل؟ أحتفظ بالردّ لنفسي!
ولكن حين تسيطر عليك فكرة تريد أن تطلقها في وجه شيء ما، لا تستطيع الصمود أحيانا أمام حبها للانطلاق، أو تشعر أنك تخون نفسك إن لم تطلقها، فتطلقها وليكن ما يكون أو فليُقل ما يقال، فليس كلّ ما يكون وليس كل ما يُقال دائما صحيحا وإن كان كذلك ف-“براقش لم تجن إلا على نفسها”.
كانت الحملة يا سميح يومها أكبر منّي أو ربّما، وهذا الأصح، “صغّرت كتفيّ” لها، ولذا لم أكن صديقك في تلك الأيام، آسفا ربما، لكني ارتجاعيّا لست نادما فعلى الأقل لم أضطر لا كصديق ولا كرفيق أن أقلب لك ظهر مجن يوما ولم أضطر أن أصوبه لا في حياتك ولا يوم واجهتَ الذي تكرهه دون خوف، حتى لو كنت قلتُ أو كتبت فلم أكن لأستطيع أن أعدد يوم رحيلك إلى المجد، خنادق نضال افترشناها كتفا إلى كتف، وأنا أعرف جيّدا أنك خضت الكثير منها بعد أن حًسرت منك أكتاف حين ألحّت الحاجة، ولا كنت لأستطيع أن أذكر يوم ميلادك ولا مراتع طفولة (هذه طبعا غير واردة لفارق العمر) ولا… ولا… رغم إنّا التقينا في الكثير من المحطّات وكنتُ في الصفوف وراءك وأنت في المقدّمة وأستطيع كنت أن أقول، لو أسعفني القول، أن ظهرك كان محميّا.
ومع كل هذا ورغمه، فوقع الكلمات التي كانت تّنثر عليك وفيك يوم الرحيل إلى المجد ويوم الذكرى وعلى الصفحات الالكترونية والورقية، ذكّرني بشيء وضعني قبالته وجاهيّا مذهولا بعض الشيء، أن هذه الكلمات تركع اليوم أمام كبر القلب الذي في حناياك وقوته رغم آثار تكسر النبال على النبال فيه و”الأشد من وقع الحسام المهنّد” كان وقعها، وكنت عرفته فيك فقط في العقد الأخير، عقد التكفير إذا صحّ التعبير.
واليوم حين صار ذلك المقطع القصير من طريق بيت جن الرامة على سفح حيدر ملتقىً دائما لعينيي ومرقدِ جسدك لا أقطعه إلا وعيناي عليه، أستطيع أن أقول لك أن وسع قلبك لم يذهب سدى، فالكثيرون ممن حملوا حطوا الحمل ولا سبب عندي لأظنّ فيهم الظنون.
أستطيع اليوم، السابع والخمسين من مولدك، أن أقول أنه يوم استدعيتني في بداية هذا العقد، عقد التكفير، على عجل وعلى غير عادة وبنبرة في صوتك لم أعهدها، رأيت ذلك “الغضب الساطع” في عينيك لأول مرّة، وحمّلتني رسالة غضبى، والتي لم تكن بأقل من غضب مضاء حسام كلماتك في وجه الظالم ولا في وجه ال-“يقولون ما لا يبطنون” وال- “يفعلون ما لا يضمرون” وخصوصا حين يكون أبناء جلدتهم ضحيّة قولهم وفعلهم، رغم سكوتك عن هؤلاء أحيانا غير المبرر إلا بكبر النفس والعقل، ونقلت الرسالة كما تعرف وأستطيع أن أقول لك اليوم: تجلّت يومها أمامي بكلّ أشكال تجليّاتها المقولة: “احذر الكريم إذا غضب!”.
تواترت من يومها لقاءاتنا وكثرت كثيرا وكنت في حضرتك وأنا المحامي والسياسيّ كثيرُ الكلام، قليلَ الكلام، ربّما تعويضا على ما كان قد فاتني من الاستماع، ولذا لم تصِر يا سميح في هذه اللقاءات صديقي أو رفيقي الذي لم تكُنه يوما لا في المعنى التقليدي في الصداقة والرِّفْقة ولا في المعنى غير التقليدي، لأني لم أرد ذلك، أردتك “شيئا” آخر دون أن أقله لك يوما لأني لم أدرك كنهه، وكنت لي “شيئا” آخر لن أعرف مرّة كنهه.
أنت لست بالنسبة لي ذلك المناضل الذي لا يُشق له غبار ولا ذلك الشاعر الذي يُهاب له في الشعر غمار، انت ذلك “الشيء” غير معروف الكنه، أنت (مثلا) “الشيء” الذي كان يناقش “تمرّد” وضاح ولا يلبث أن ينكسر أمامه وأنت لم تكن يوما إلا من الكاسرين، أنت ذلك “الشيء” الذي كان على صحن الحمّص في المطعم الشعبيّ إياه في القرية من قرانا إياها، تقول بين كلام يبتسم وكلام يضحك: لم أطق يوما الاستعباد ولكن هذا ال-“سميح” الصغير استعبدني برضاي حتى العظم، وأنت… وأنت… “أنت شيء آخر”.
15 تشرين الأول 2014 (اليوم ال-57 من عمر سميح الجديد)
سعيد نفاع sa.naffaa@gmail.com

+ -
.