صانعو المعلوماتيّة: الـ«هاكرز» أم أشباه المجانين؟

مَنْ صَنَع ثورة المعلوماتيّة: الـ»هاكرز» أم أشباه المجانين؟ يبدو ذلك السؤال الآن كأنه لا يستهدف سوى التذكير بالرحيل المأسوي لعالِم الرياضيّات الأميركي المتألّق جون ناش. لم يكن ناش إنساناً عادياً ولا طبيعيّاً، بل أن «عقله» تحدى الطب النفسي ومفاهيمه، خصوصاً بعد أن اهتزّ بشدّة بفعل إصابته بمرض الـ»بارانويا» الفصاميّة الذي كان مفترضاً أن يقود ناش إلى جنون مطبق. وبات معروفاً أن العالِم المتألِق تحدى مصيره الغامض المزري، وثابر على خوض التحدي مع نفسه، إلى أن خرج من دائرة الـ»بارانويا» المرضيّة، على رغم احتفاظه بكثير من الأفكار المختلطة معها، وفق ما قاله في خطاب قبوله جائزة «نوبل» للاقتصاد في العام 1994. وألهمت تلك السيرة المملؤة بالآلام والآمال، الفيلم الهوليوودي الذائع الصيت «عقل جميل»Beautiful Mind» بطولة راسل كراو.

وفي أميركا، ثمة من يرى أن ناش ليس مثالاً مفرداً ولا استثناءً، بل أنه يكاد أن يكون القاعدة، خصوصاً في مجال العقول الجميلة التي صنعت ثورة المعلوماتيّة والاتصالات.

ويشدّد ذلك الكتاب على أن ثورة المعلوماتية ليست من صنع العباقرة ولا الملهمين. ولم يأت نجاح المعلوماتية في أن تصبح المكان الأكثر تألّقاً للإبتكار، بفضل من تتدفّق أدمغتهم بالأفكار ليلاً ونهاراً، كنهر أسطوري لا يكف ولا يتوقّف.

كم تبدو تلك الكلمات بعيدة عن الصورة الراسخة، بل العاتية الرسوخ، للإبتكار، خصوصاً لثورة المعلوماتيّة المعاصرة. وعلى رغم ذلك، تأتي تلك الكلمات من النبع الفوّار لثورة المعلوماتيّة والاتصالات المتطوّرة: الولايات المتحدة. وجاءت تلك المقولة من شخص متضلّع تماماً في تاريخ الابتكار والاختراع، وهو الصحافي الأميركي والتر إيزاكسون. ويتخصّص إيزاكسون الذي درس في جامعتي «هارفرد» و»أوكسفورد» الأميركيتين، في كتابة السير الذاتيّة، بل أنه نال جائزة «كويل» عن ذلك النوع من الكتابة، إضافة إلى ترشيحة لنيل جائزة «باركر» عنها.

العبقري بوصفه متمرّداً

وضع إيزاكسون غير كتاب لسير ذاتيّة عن عباقرة الابتكار والعلوم، تشمل المبتكر (والرئيس الأميركي) بنيامين فرانكلين، وآلبرت إينشتاين. وتنشغل أستوديوات هوليوود بصنع فيلم عن حياة العبقري الراحل ستيف جوبز، المؤسّس الأسطوري لشركة «آبل» ومبتكر «آي فون» و»آي باد» و»آي تيونز» وقبلها كومبيوتر الـ»ماكينتوش»، مرتكز إلى كتاب دوّن فيه إيزاكسون حياة جوبز في مؤلّف يحمل إسمه، استناداً إلى وثائق تضمّنت مقابلات مديدة مع المبتكر الراحل.

ما الذي دهاه، إذاً، كي يضع كتاباً يحمل إسماً يتفاخر فيه بالمبتكرين، مع إصراره على نفي أن يكون هؤلاء هم المحرّك الفعلي لثورة التقنيّة المعلوماتية المعاصرة، خصوصاً في أميركا؟

على رغم أن الكتاب عينه يتضمّن سلسلة كبيرة من السير الذاتيّة للأسماء المتألقة التي صنعت تلك الثورة التقنية، إلا أن إيزاكسون لا يستهل كتابه في أميركا ولا حتى في القرن العشرين الذي شهد ولادة الابتكار المعلوماتي. يعود إيزاكسون إلى بريطانيا، مستعيداً أفكار اختصاصيّة الرياضيات إيدا لوفليس (هي إبنة الشاعر الرومانسي الإنكليزي اللورد بايرون)، والعالِم تشارلز بابج، مشيراً إلى أنهما وضعا قبيل منتصف القرن التاسع عشر، تصوّراً أوليّاً عن آلة تشبه الكومبيوتر المُعاصِر. وبعدها، يقفز إيزاكسون إلى أربعينات القرن العشرين، ليؤشّر على ولادة «إينياك» ENIAC، الذي يختصر إسمه عبارة Electronic Numerical Integrator & Computer. ويشدّد إيزاكسون على أن «إينياك» كان الكومبيوتر الأول فعليّاً، لأنه إلكتروني كليّاً، قابل للبرمجة، ويستطيع التعامل مع المهمات جمعيها، بمعنى أنه لم يكن مصمّماً لإداء عملية بعينها، مثل الحاسبة الإلكترونيّة التي تتخصّص حسابات الأرقام.

بعد وصوله إلى محطة «إينياك»، يصبح كتاب إيزاكسون سلسلة متتابعة من السير الذاتية لمبتكرين ومخترعين صنعوا ثورة التقنية الرقمية المعاصرة، وهو ما يتوافق مع عنوانه: «المبتكرون: كيف خلقت مجموعة من الهاكرز والعباقرة والغريبي الأطوار، الثورة الرقميّة»The Innovators: How a Group of Hackers, Geniuses & Geeks Created the Digital Revolution.

وفي ثنايا تلك السير المتواليّة، يحدّق إيزاكسون في مجريات الأمور، رابطاً المبتكرين ونتاجاتهم، مع السياق المؤسّساتي الذي عملوا فيه، إضافة إلى الميول الاجتماعيّة التي حدّدت أعمال المبتكرين من جهة، والتي أثّروا هم فيها من الجهة الثانية.

فخ الرواية الشائعة

على رغم أن قصة الابتكار والتكنولوجيا كثيراً ما تروى باعتبارها تاريخاً لمبتكرين، إلا أن إيزاكسون يحذّر من الوقوع في تلك السهولة، بل يتّجه بالقارئ نحو أفق آخر. ففي تاريخ التكنولوجيا، يسهل رؤية الأجهزة والأدوات، ككومبيوتر «إينياك» والرقاقة الإلكترونيّة والألياف الضوئية وشبكة الانترنت والـ«آي باد» والـ«آي فون» والهواتف الذكيّة وغيرها. في ذلك التاريخ عينه، يسهل سرد تتابع من نُظُم التشغيل والبرامج الذكيّة التي قلبت علاقة البشر مع الكومبيوتر محوّله إياها من آلات صعبة إلى أدوات دائمة الحضور في الحياة اليوميّة، كبرامج الكتابة «وورد» والمنصّات الأيقونيّة وجداول الأعمال «إكسيل»، والشبكات الاجتماعية وغيرها.

وفي سِيَر الشخصيّات العبقرية ومنتجاتها المتنوّعة، يبدو ما يسرده إيزاكسون مألوفاً، على الأقل بالنسبة لمتابعي الشأن المعلوماتي وهواة التقنيّات بأنواعها.

وفي ثنايا تلك الأشياء العاديّة، يتميّز كتاب «المبتكرون» بأن إيزاكسون يستخدم التاريخ الفوّار ليلقي أضواءً على طبيعة الابتكار بحد ذاته، ليصل إلى خلاصة فائقة التميّز: الابتكار لا يعتمد على المبتكرين!

ألا تبدو تلك الخلاصة البارزة متناقضة وإشكاليّة؟ كيف يسير الابتكار من دون أهله وصُنّاعه؟ يعود إيزاكسون إلى أمثلة لا تخلو من الإثارة، على غرار سيرة مهندس الكومبيوتر العبقري بيتر آتاناسوف. في مطالع الأربعينات من القرن الماضي، توصّل المبتكر آتاناسوف إلى تصميم آلة تحظى بمعظم مواصفات الكومبيوتر «إينياك». ولكنه كان مصرّاً على العمل بنفسه في محرفه الصغير في منزله بولاية «إيوا». لم يمض إلى العمل المتآزر في مختبر تقني مع علماء آخرين. وعلى رغم تألّقه فرديّاً، لم يتوصّل آتاناسوف إلى صنع أي شيء فعليّاً سوى نموذج أوليّ، بل صار سطراً باهتاً في تاريخ الابتكار والتقنية. في المقابل، أدّت سلسلة من التغيّرات الأساسيّة في طرق العمل ومفاهيمها، بمعنى أنها متغيّرات في الثقافة والفكر والمجتمع والسياسة، إلى ولادة «إينياك»، عبر عمل فريق لم يقده عبقري بنفسه، بل تآزرت فيه جهود المبتكر الأميركي المتقلّب المزاج جون موشلي والمهندس الدؤوب الصارم ج. بريسبر إيكهارت. وبعد عقود، تكرّرت الثنائيّة نفسها لتصنع أول كومبيوتر مكتب هو «ماكنتوش» الذي صنع بتآزر جهود العبقري المضطرب ستيف جوبز والمهندس المثابر ستيف ووزنياك. وتكرّرت ثنائيّة مُشابِهة ومتزامنة معها، جمعت بول آلن وبيل غيتس، لتصنع نظام التشغيل «ويندوز» وتؤسّس شركة «مايكروسوفت» العملاقة.

+ -
.