صواريخ «القطارات النوويّة» تدغدغ حلماً روسيّاً بالمريخ؟

مرّ الخبر في الإعلام العربي مرور الكرام، على رغم أهميته الإستراتيجيّة أساساً، إضافة إلى بعده العلمي الواضح. ربما ساهم في ذلك إعلان أميركا عن فشل روسيا في إطلاق صواريخ عابرة للقارات وأنّها سقطت في إيران لا المحيط الهادئ، قبل نجاح روسيا في تجربة تسمّى «القطارات النوويّة». وتشير التسمية إلى إطلاق صواريخ باليستيّة عابرة للقارات من قطارات متحرّكة، وهي مسألة فائقة الأهميّة لأن الدول كلها تطلق تلك الصواريخ من قواعد ضخمة ثابتة ومحدّدة، ما يجعلها سهلة الاستهداف نسبيّاً. وربما الأهم من ذلك أن عودة روسيا إلى إحياء مشروع «بارغوزين» السوفياتي عن صواريخ «القطارات النوويّة»، يعيد صوغ التوازن في معادلة الردع الإستراتيجي، خصوصاً في أوروبا.

وفي زمن الاتحاد السوفياتي، امتلك الجيش الأحمر 12 قطاراً نوويّاً، يحمل كل منها مجموعة من الصواريخ الإستراتيجيّة القادرة على حمل رؤوس نوويّة. وفي عزّ الحرب الباردة، كان «حلف الأطلسي» يوازن التفوّق العددي واللوجستي للجيش السوفياتي (وضمنه الصواريخ المتوسطة المدى) عبر نشر صواريخ باليستيّة استراتيجيّة كـ «كروز» و «بيرشينغ» وغيرهما. وانهارت تلك المعادلة كليّاً لمصلحة الحلف بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، بل انقلبت إلى الاتجاه المعاكس مع نشر «الدرع الصاروخيّة» على مقربة من روسيا، خصوصاً بولندا الفائقة الحساسيّة نظراً إلى تماسها المباشر مع الحدود الروسيّة السياديّة في مقاطعة «كاليننغراد» على بحر البلطيق. وإذا صارت أوروبا في القبضة الإستراتيجيّة للصواريخ الروسيّة المتحرّكة، هل يكون ردّها بالتحدي (الذي تضعفه السياسات المعلنة لدونالد ترامب)، أم تستعيد ذائقة علاقاتها أيام القيصر «بطرس الأكبر»، بل تعوّض بروسيا الخسارة الإستراتيجيّة لبريطانيا الـ «بريكزيت»؟

تعويض خسارة القمر

ربما يطول شرح أهمية الصواريخ الإستراتيجيّة المتحرّكة في السياسة والإستراتيجيا، لكن الأمر له بعد علمي فائق الأهمية أيضاً. إذ تعتمد رحلات الفضاء بصورة كبيرة، على التقدّم في صنع الصواريخ التي تحمل المركبات والتلسكوبات والمجسّات والأقمار الاصطناعيّة، إلى الفضاء الخارجي.

وعلى رغم الصعوبات الجمّة التي مرت بها صناعات الفضاء في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ما زال الروس يحلمون بأن تحقّق بلادهم إنجازاً تاريخياً عبر النجاح في إنزال أول إنسان على سطح الكوكب الأحمر. ولا ينسى الروس أنهم افتتحوا عصر الفضاء ومغامرة اكتشافه، عندما سبقوا شعوب الأرض إلى إطلاق القمر الاصطناعي الأول «سبوتنيك 1» (1957)، الذي تلاه ريادة موسكو في إرسال رائد فضاء أول يسير في الكون، هو يوري غاغارين (1961). وفي المقابل، لم تنس روسيا وجعها الكبير، حين «سرق» منها الأميركيون علم الريادة، فنجحوا في إرسال أول إنسان (نيل أرمسترونغ) إلى سطح القمر (1969).

ربما كانت الريادة في الفضاء، وما تعنيه من تقدّم في العلوم والتكنولوجيا، من الأسباب التي دفعت الروس إلى تكثيف نشاطهم في مجال البحوث المتّصلة بإرسال مركبات فضاء مأهولة إلى المريخ. والأرجح أنهم يملكون دوافع أخرى، من بينها إبراز أنّ صناعة الفضاء في روسيا «بخير»، وأنّ النشاط الذي تجلّى في مساهمة روسيا القوية في بناء «محطة الفضاء الدولية» مؤشّر مهم إلى قدراتها في مجال الفضاء. ويضاف إلى ذلك أنّ بلداناً كثيرة تعتمد على قواعد الفضاء الروسيّة (كقاعدة «بايكانور» في كازاخستان) لإطلاق أقمارها الاصطناعيّة إلى الفضاء، محمولة على متن صواريخ روسيّة أيضاً، ما يعزز الثقة بأن موسكو مازال في جعبتها الكثير.

يد «المركز العلمي الروسي»

قبل سنوات قلائل، ظهر نموذج آخر من قدرات روسيا في علوم الفضاء، عبر مشروع «مارس 500» Mars 500. ويهدف المشروع إلى تجهيز رحلة لنقل رواد فضاء وعلماء إلى الكوكب الأحمر، في تطور من شأنه أن يحقق، إن أنجِز، ثورة حقيقية في علوم الفضاء.

وأطلقت تسمية «مارس 500» على ذلك المشروع الطموح الذي يتضمّن سلسلة تجارب بدأ العمل عليها منذ العام 2007. ويشرف على المشروع «المركز العلمي الروسي»، أرقى مراكز البحوث في موسكو، ويحظى بدعم قوي من السلطات التي خصّصت له موازنة ضخمة.

يهدف مشروع «مارس 500» إلى اختبار قدرة البشر على العيش في المريخ. ويضم ثلاث مراحل، بدأ تنفيذ الأولى منها في العام 2007، عندما صُنِعت كبسولة معزولة تماماً عن العالم الخارجي، وزُوّدت بما يلزم كي تكون الحياة في داخلها مشابهة لظروف العيش في المريخ. واختار المركز مجموعة من المتطوعين الذين خاضوا تجربة الإقامة فيها مدة 14 يوماً.

وقاد نجاح التجربة ونتائجها التي وصفها العلماء بأنها «إيجابية ومشجعة جداً»، إلى الشروع بتنفيذ الجزء الثاني من البرنامج، وهي مرحلة أصعب من سابقتها. إذ احتاج القيّمون على المشروع إلى إجراء فحوصات دقيقة على 5600 شخص تطوّعوا للمشاركة، وأخضعوهم لتجارب كثيرة قبل اختيار أربعة منهم. وانضم إليهم ألماني وفرنسي انخرطوا في المرحلة الثانية التي حملت تسمية «105» نسبة إلى عدد الأيام التي قضاها الفريق المختار في كبسولة خاصة زوّدت بوسائل إضافية جعلتها مطابقة لتصوّرات العلماء عن الحياة على سطح المريخ. كما كلّفت المجموعة بمهمات خاصة مستقاة من الخبرة في رحلات الفضاء الخارجي.

وخلصت التجربة التي انتهت في تموز (يوليو) 2009، إلى نتائج مهمّة مكّنت العلماء من تحقيق طفرة في دراسة المسار المفترض للرحلة، والتأثيرات المختلفة في طاقمها صحيّاً ونفسيّاً. وكذلك قدّمت التجربة معلومات عن تأثير التغيّرات المناخية المرتبطة بالرحلة في سلوك الأفراد وقدرتهم على مواصلة مهماتهم في شكل منتظم.

ووفق مصادر في «وكالة الفضاء الروسيّة»، حاكت التجربة الحياه الطبيعيّه للعيش داخل سفينة فضاء خلال رحلة إلى الكوكب الأحمر، بما في ذلك الهبوط والتجوّل على سطح المريخ. ولفتت إلى أن التجربة مرّت من دون ظهور أي عارض طارئ خطر. واضطر «طاقم الرحلة» للقيام بعملية طارئة مرّة وحيدة خلال المسار الافتراضي، لكنه نجح في مواجهة خلل فني لم يحتج إصلاحه سوى… شريط لاصق.

وفتح نجاح هاتين التجربتين شهيّة العلماء الروس على خوض الامتحان الأكبر الذي شكّل الحدّ الفاصل، قبل الشروع بتجهيز مركبة الفضاء في رحلة حقيقية إلى المريخ: مرحلة «مارس 500». وتضمّنت عزل فريق من المتطوعين لمدة 520 يوماً، هي الفترة اللازمة للوصول إلى المريخ والعودة منه إلى الأرض، وفق الخطط الروسيّة.

وتشير الخطة إلى أن رحلة الذهاب تستغرق 250 يوماً والعوده 240 يوماً، مع فترة بقاء على سطح الكوكب الأحمر تستمر 30 يوماً.

وفي 4 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011، أنجِزَت تلك المرحلة. وحصل العلماء على معلومات تتعلّق بتأثير المناخ في المريخ في جسم الإنسان وعمل أجهزته الداخلية، واختبار القدرة العملية في السفر على امتداد وقت طويل.

آفاق الوقود الذرّي

في وكالة الفضاء الروسيّة هنالك مشروع علمي يكاد يكون خيالاً، لكنه يسعى الى تطوير مركبة فضائيّة بمحركات تعمل بالطاقة النوويّة وتستطيع نقل رواد الفضاء إلى المريخ وأبعد! ويعزّز المشروع أيضاً قدرات روسيا في تكنولوجيا الصواريخ والفضاء.

وفي ذلك السياق، أعلنت «وكالة الفضاء الروسيّة» أنّ بناء المركبة يحتاج إلى تسع سنوات، كما تصل كلفتها إلى عشرات الملايين من الدولارات.

وتقترح «وكالة الفضاء الروسيّة» التعاون مع مؤسسة «روس أتوم» المسؤولة عن الصناعات النوويّة في روسيا، لبناء المركبة. وتؤكّد الوكالة الروسيّة قدرة الخبراء والمهندسين الروس على النهوض بالعمل الضخم، وقدرة روسيا على التفوق على منافسيها في سباق الرحلات المأهولة إلى المريخ.

وبعد زيارة من الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف إلى «وكالة الفضاء الروسيّة»، اقتنعت الحكومة بتخصيص المبلغ المطلوب للمشروع.

وأوضح آندريه إيونين، وهو خبير في مجال بحوث الفضاء، أنّ روسيا تمتلك التكنولوجيا القادرة على إنتاج الكمية المطلوبة من الطاقة. ويعود الفضل في ذلك إلى حقبة الاتحاد السوفياتي، حينما تم تجميع خبرة كبيرة في ذلك المجال على امتداد ثلاثة عقود. وآنذاك، أطلقت روسيا أعداداً كبيرة من أقمار التجسّس الاصطناعية التي تعمل بالطاقة الذرية. ويكفل ذلك المشروع لروسيا أن تصبح بلداً رائداً في صناعات الفضاء.

ومــن ناحية أخرى، علّقت «الوكالة الأميركيّة للطيران والفضاء» («ناسا») على المشروع الروسي، مشيرة إلى أنّ الانتقال إلى تقنية الدفع النووي النفاث يعتبر من الضروريات لمواصلة دراسات النظام الشمسي.

ورأت أنه يفيد أيضاً في دراسة الأجرام الواقعة في الجزء القصيّ من النظام الشمسي، حيث تصبح أشعة الشمس ضعيفة للغاية، ولا تستطيع توفير حاجات مركبات الفضاء من الطاقة.

+ -
.