ظلال الذكاء الاصطناعي وتوحيد العلوم

في الأوسكار، تنافس فيلمان عن شخصيّتين علميّتين على جوائز «الأكاديمية الأميركيّة»، هما «نظرية لكل شيء» Theory of Everything و «لعبة المحاكاة» Imitation Game. يتناول الأول الحياة الشخصية لعالم الفيزياء الكونيّة المعاصر ستيفن هوكينغ (أدى دوره ببراعة متفانية الممثل إيدي ريدماين)، مع ملامسة لجوانب من إنجازاته العلميّة. (أنظر «الحياة» في 20 كانون ثاني- يناير 2014). وحمل الفيلم عنوان «نظرية كل شيء» في إشارة إلى جهود بذلها هوكينغ في سبيل توحيد النظريتين الكبيرتين في الفيزياء المعاصرة: نسبيّة إينشتاين والميكانيكا الكمومية Quantum Mechanic.

واستند الفيلم الثاني إلى السيرة المأسوية لعالم الكومبيوتر البريطاني الذي يعتبر من الآباء المؤسّسين لعلم «الذكاء الاصطناعي» Artificial Intelligence، هو آلان تورينغ، الذي جسّد شخصيته بأداء نفسي مرهف الممثل بنديكت كرومباتش.

ويحض الفيلمان على تجديد النقاش المتّصل بمسألة «الخيال العلمي» Science Fiction في الفنون كالأفلام والرواية والمسرح والقصة القصيرة وغيرها. ويتطلّب ذلك نقاشاً مستقلاً.

في ذلك الصدد، شهد العام المنصرم مجموعة من الأفلام المتفاوتة المستوى، المرتبطة بالخيال العلمي. ويندرج في تلك القائمة، شريط «دايفرجنت» Divergent (بطولة: شايلين وودلي، إخراج: نيل برغر).

ويقدّم الفيلم خيالاً عن عالم تسيطر عليه نخبة متسلطة تستخدم قدراتها في علوم الوراثة لفرز البشر (وبمعنى التمييز بينهم أيضاً)، بعد أن «تصّنع» الأجساد وفق ما تشتهي، وتخصّص كل جسد لأداء مهمة معيّنة. لكن السيطرة تختل. وتظهر فتاة لها حمض وراثي غير مستقر، فيصعب إدراجها في أي مجموعة، ما يجعلها خارج التصنيف، ويكون الأمر مدخلاً لتمرد ثوري كبير. وفي أجواء مُشابهة، يدور فيلما «راكض المتاهة» Maze Runner (إخراج: ويس بال، بطولة: ديلان أوبراين)، و «المانح» The Giver (إخراج: فيليب نويس، بطولة: برنتون ثويتس).

وهناك فيلم «لوسي» Lucy (إخراج: لوك بيسون، بطولة: سكارليت جوهانسون، في دور ذكّر بأدائها صوتيّاً في فيلم الخيال العلمي «هير» Her مع يواكيم فوينكس). ويدور ذلك الفيلم ضمن سيناريو واهن، عن خطأ في تناول دواء يؤدي إلى تفجير طاقات الدماغ عند فتاة، فتصبح «سوبر كومبيوتر» يهيمن على الأشياء كلها، استناداً إلى أن البشر لا يستعملون سوى 10 في المئة من قدرات أدمغتهم. ويحمل عنوان الفيلم تلاعباً على إسم «لوسي» الذي يستخدمه مؤيّدو نظرية التطوّر في الإشارة إلى من يظنّون أنها الأنثى الأولى، ما يعني أن من أدت جوهانسون دورها تكون بداية لجنس بشري متطوّر عقليّاً بشكل فائق.

ويبدو فيلم «ترانسيندنس» («ارتقاء») Transcendence (إخراج: والي بفستر، بطولة جوني ديب) قريباً من أجواء «لوسي»، في تصوره عن عالِم كومبيوتر يصنع نموذجاً حاسوبيّاً عن عقله، بل ينقل محتويات عقله إليه، كي يتحوّل وجوداً دائماً ومستمراً ومؤثّراً في العوالم الافتراضيّة للانترنت. ويحمل عنوان الفيلم تلاعباً مضمراً في إشارته إلى فلسفة ديكارت العقلانية.

ومن دون الخوض في القائمة الطويلة لأفلام الخيال العلمي في 2014، يمكن القول من دون مجازفة كبيرة أن فيلم «بين النجوم» («انترستالار» Interstellar)، يعتبر أبرز أشرطة الخيال العلمي لتلك السنة. أخرج الفيلم كريستوفر نولان، وأدى بطولته ماثيو ماكونهي (أداء أقل كثيراً مما قدّمه في فيلم «نادي دلاس للمشترين»Dallas Buyers Club) وآن هاثوي.

ويرتحل الفيلم مع رائد فضاء يبحث عن كوكب يلجأ إليه البشر بعد أن خرّبوا كوكبهم، مستعيداً نقاشاً ضخماً عن آفاق العلاقة بين الإنسان والبيئة، ضمن رؤية لا تخلو من التشاؤم. فمع هزيمة مسار التقدّم في الحضارة الحديثة، يسود شك في قيمة العلم وتفسيراته للكون، ويسود شيء من التفكير الغيبي حتى لدى المشتغلين في العلم.

وفي أكثر من وسيلة إعلامية، بينها الصفحة المخصّصة للفيلم على موقع «ويكيبيديا» الشهير، وصف الشريط المخرج بأنه يندرج ضمن ترسيمة «المدنيّة القاتمة» («ديستوبيا» Dystopia). ويقصد بذلك أن الشريط يرسم أفقاً منهاراً للحضارة، على عكس الإشراق الذي تضج به الرؤى المتفائلة عن مستقبل الحضارة الإنسانيّة. هناك شيء من ذلك المزاج المرّ رافق أفلام الخيال العلمي دوماً منذ فيلم «متروبوليس» (1927)، الذي يكاد أن يكون مؤسّساً لسينما الخيال العلمي. ولكن، لا يبدو شريط «بين النجوم» متشائماً أبداً، على رغم أنه لا يرسم صوراً زاهية لمستقبل البشر.

آفاق متفاوتة

يستهلّ الفيلم على الأرض في مستقبل غير محدد زمانياً (وهي أحد التلاعبات البارعة في الفيلم) سوى أنه لا يبعد كثيراً عن القرن العشرين، بل أن أحد الكهول في الفيلم يتحدث عن ذلك القرن بلغة التذكّر، لكنه زمن شديد الشبه بالعيش المعاصر. وإذ شرعت موارد الأرض في النضوب، لم يعد ممكناً الاستمرار في التقدّم العلمي وابتكاراته واختراعاته المتوالية. لذا، اتّخذ البشر قراراً بإبطاء مسار التطوّر، بل العودة إلى وسائل قديمة، مع التركيز على محاولة حفاظ ما تبقى من موارد الطبيعة.

جاء قرارهم متأخّراً. إذ انهار النظام البيئي، خصوصاً الغلاف الجوي، وصار الموت جوعاً على بعد خطوة من مسار البشر. ويتبدى لعلماء أن الحلّ هو هجرة الأرض إلى الفضاء. لكن، من هم أولئك المختارون؟ من يختارهم؟ إلى أين يجب الذهاب؟ هل هناك كواكب تصلح فعليّاً لاستضافة من يفد إليها من البشر؟ لا توجد لدى البشرية إجابات كافية، ولا موارد للخوض في استكشاف علمي للإجابات. وضمن ما يملكونه من علم، يكون الحل بأن ينقل سراً بعض العلماء إلى الفضاء، بهدف استكشاف كواكب صالحة للاستمرار البشري، مع تشاؤم يأتي من عدم إمكان الجنس الإنساني بأكمله، واقتصار النجاة على نخب قليلة من البشر.

من الواضح أن درجة معيّنة من التآلف مع مفاهيم علميّة كثيرة، تشكّل شرطاً أساسيّاً لفهم أحداث الفيلم المتصاعدة الإيقاع عبر سيناريو لا تفشل خيوطه في إبقاء عين المشاهد مشدودة إليها، إضافة إلى إبهارها بالمؤثّرات البصرية الضخمة التي تدفع بالـ «غرافيكس» السينمائي المعاصر إلى حدود جديدة. وفي هوليوود، تسمى تلك المشهديات بـ «الغرف الزرق» لأنها تنفذ في استوديوات بجدران مطلية بذلك اللون الذي يتفرّد بتسهيل إدخال التلاعبات البصرية للكومبيوتر. وللحديث بقيّة.

+ -
.