عالم بلا فوتونات.. عالم بلا حياة

وما أدراك ما “الفوتونات”، هي جسيمات تحيط بنا إحاطة الهواء، نعم، فنحن نعيش في بحر من الهواء، كما تعيش الأسماك في الماء، وبحر الهواء الذي نسبح فيه لا يحتوي فقط على الأوكسجين والهيدروحين والنيتروجين، ولكنه أيضا بحر من الفوتونات، فهي الوسيط الذي ينقل الضوء لأبصارنا، بل هي التي تنقل لنا نور الشمس وطاقتها، والأرض بلا طاقة الشمس ونورها أرض بلا حياة.

فما هي الفوتونات؟ وكيف تقوم بعملها؟
هي جسيمات غاية في الصغر، لا يمكن بالطبع رؤيتها بالعين المجردة، ولكن لا يمكن رؤية شيء بدونها، لأن الضوء الذي نبصر به الأشياء يتكون منها، فما الضوء إلا سيل من الفوتونات، تستقبله شبكية العين، فتحوله إلى نبضات كهربائية، ينقلها العصب البصري إلى الدماغ ليصنع منها صورة نرى بها العالم، وهي التي تستقبلها أوراق الأشجار لتقوم بعملية التركيب الضوئي، ولنا فيها مآرب أخرى.

هي من عجائب خلق الله، لا كتلة لها ولا وزن، وليس لها شحنة كهربائية، وهي مجرد دفقات أو حزم من الطاقة، متناهية في الصغر، تنتقل بسرعة الضوء. وقد أمضى العلماء قروناً طويلة من البحث والتجربة والمناقشات، حتى وصلوا إلى ما يعرفونه اليوم عن الفوتونات، وكان ذلك من خلال بحثهم مكونات الضوء.

البداية كانت قبل ثلاثة قرون من الميلاد، عند العالم الإغريقي “إقليدس”، الذي قال إن العين تصدر أشعة ضوئية تصطدم بالأشياء ثم تعود للعين فتبصر، ولم يحدد ماهية هذه الأشعة.

بقي هذا المفهوم سائداً 13 قرنا، حتى جاء العالم العبقري الحسن بن الهيثم في القرن العاشر، وأثبت بالدليل القاطع، أن العين لا تصدر أي ضوء، ولكن أشعة الضوء تأتي من الأجسام إلى العيون فتبصر، وكان أول من وضع قوانين انكسار وانعكاس الضوء، وغيرها من القوانين التي سبق بها غيره بقرون عديدة، لكنه لم يجب على سؤال هام وهو: مم يتكون الضوء؟

بعد ابن الهيثم بستة قرون، تجرأ العالم رينيه ديكارت على أن يسأل عن ماهية الضوء، ومم يتكون، ففتح بذلك نقاشاً علمياً استمر ثلاثة قرون من الزمن، كان العلماء خلالها الفترة منقسمين بين رأيين: رأي يتزعمه إسحق نيوتن الذي يرى أن الضوء هو سيل من الجسيمات المتناهية في الصغر، ورأي آخر يقول به العالم الألماني كريستين هيجن، والذي يقول إن الضوء هو موجات أو ذبذبات، وليس جسيمات، وكلا الطرفين له أدلته العلمية، لأن الضوء يسلك أحياناً مسلك الجسيمات، وأحياناً مسلك الموجات.

وظل الانقسام حاصلا إلى أن جاء العبقري ألبرت أينشتاين، فوضع له حدا، وأثبت أن الضوء له خصائص مزدوجة، تجمع بين خصائص الجسيمات، وخصائص الموجات، فهو يتكون من جسيمات لا كتلة لها، سميت فيما بعد “الفوتونات”، ولا تحمل أي شحنة كهربائية، ولكنها تحمل طاقة، ولا تنطلق في الطبيعة إلا على شكل موجات، مختلفة الأطوال والترددات.
إن اختلاف طول موجات الفوتونات وتردداتها، هو عجيبة من العجائب، التي لولاها لأبصرنا العالم كله من حولنا بلا ألوان، فكل نقطة من كل شيء ننظر إليه حولنا ترسل لشبكيات عيوننا موجات من الفوتونات، (ألم نقل إننا نسبح في بحر من الفوتونات!)، وأطوال هذه الموجات تختلف حسب لون الشيء الذي نراه، فكل لون، بل كل درجة من كل لون، تعكس أمواجاً ضوئية بطول مختلف، يقوم جهاز البصر لدينا بترجمة طول كل موجة ضوء مرئية إلى اللون الذي وصلتنا منه، فنرى العالم بألوانه المختلفة، ويقدر العلماء أن العين البشرية تميز ما بين سبعة ملايين إلى عشرة ملايين لون.

لقد قلنا “موجة ضوء مرئية”، فهل هناك موجات فوتونات غير مرئية؟ الجواب: نعم، إذ لا تشكل أمواج الضوء المرئية، التي تميزها عيوننا، سوى حيّز صغير جداً من طيف الأمواج الفوتونية المعروفة باسم “الأمواج الكهرومغناطيسية”، وأمواج هذا الطيف تغطي مجالاً هائلاً، فقد تكون قصيرة بحجم ذرة واحدة أو اقل، وقد تكون طويلة تقاس بملايين الكيلومترات، وموجات الفوتونات المرئية يتراوح طولها ما بين ٤٠٠ إلى ٧٠٠ نانو متر، (النانو متر هو جزء من المليون من المليمتر)، أطولها موجات اللون الأحمر، وأقصرها موجات اللون البنفسجي، وما بينهما ألوان الطيف الأساسية وتدرجاتها.

المصدر الأكبر للفوتونات هو النجوم، ومنها شمسنا، فالشمس تطرح الطاقة الهائلة الناتجة عن التفاعلات النووية التي تحدث فيها، على شكل موجات من الفوتونات، تنقل الطاقة الشمسية لأرضنا، وهي مصدر كل الطاقات الموجودة على كوكبنا، وعلى ذلك فإن العالم بلا فوتونات، عالم بلا حياة.

كلما قصر طول موجات الفوتونات، ازدادت تردداتها، وازدادت الطاقة التي تحملها، لذلك فإن الأمواج فوق البنفسجية تؤذي جلد الإنسان إذا تعرض لها لأنها أقصر من موجات الألوان المرئية، وأشد الموجات طاقة، أقصرها طولاً، وأعظمها ترددا، وهي المعروفة باسم أشعة “غاما” فطاقتها هائلة، تنتجها النجوم، وتنتجها التفاعلات النووية، وتطلقها الأجسام المشعة، ولولا وجود غلاف جوي للأرض يحميها ويمنع وصول الأمواج القصيرة إليها، ومنها أشعة غاما، لما كانت حياة على الأرض، رغم أن هذا الغلاف نفسه يسمح بمرور أشعة الضوء المفيدة، فمن حكمة الله تعالى، أن معظم الأشعة الضوئية التي يسمح الغلاف الجوي للأرض بوصولها إليه، تقع في مجال رؤية شبكية العين البشرية، ألا إن خالق الكون والإنسان سبحانه وتعالى إله واحد.
من الأمواج الكهرومغناطيسية ما يستخدم لتفتيش الحقائق في المطارات (أسوشيتد برس)
ومن الأمواج الكهرومغناطيسية أشعة إكس، ومنها أمواج البث الإذاعي والتلفزيوني، ومنها أمواج أجهزة التحكم عن بعد التي نشغل بها الأدوات الكهربائية، ومنها موجات الاتصالات التي تلتقطها الهواتف النقالة، ومنها موجات الاتصالات التي تصدرها أجهزة هبوط وإقلاع الطائرات، ومنها موجات الشبكات اللاسلكية “واي فاي”، ومنها الموجات التي تستخدمها الأجهزة الطبية، ومنها موجات أجهزة الأمن وتفتيش الحقائب في المطارات، ومنها الأشعة تحت الحمراء، والأشعة فوق البنفسجية، ومنها ومنها….

إن بحرالفوتونات المحيط بنا إذن، فيه ما لا يكاد يحصى من الأمواج الفوتونية، فمثلا، كم من المحطات التلفزيونية والإذاعية يستطيع طبق لاقط للبث التقاطها؟ هي لا شك بالآلاف، وربما بمئات الآلاف، أمواجها الفوتونية كلها موجودة حولنا، وتحمل لنا ما تبثه المحطات بصيغة موجات كهرومغناطيسية، ليلتقطها الطبق وينقلها لجهاز الاستقبال فيعيد تحويلها إلى صور وأصوات، تعرضها أجهزتنا.

ولكن، ألا تصطدم هذه تلك الآلاف المؤلفة من الموجات بعضها ببعض، وبموجات الضوء، فتتشتت وتتفرق وتتشوش؟ لو حدث ذلك لما أمكننا أن نلتقط محطة بث واحدة، بل لما أمكننا أن نبصر بعيوننا، فكل نقطة حولنا يمر بها من أمواج الضوء والبث وغيرها ما لا يكاد يحصى، ولكن كلاً منها يتابع طريقه بسلام وكأنه لا يوجد غيره في الجو، وهذا من عجائب عوالم ما دون الذرة، ومنها عالم الفوتونات والأمواج الكهرومغناطيسية.

عزيزي القارئ، عندما تلامس حرارة الشمس وجهك في يوم مشمس، وعندما تبصر عيناك أي شيء، وعندما تشاهد أي نبات أخضر على سطح الأرض، فتلك هي الفوتونات، تنقل الطاقة والدفء من الشمس، وتنقل الصور والألوان لأبصارنا، وتمتصها أوراق الشجر الخضراء لتقوم بالتركيب الضوئي، الذي لولاه ما كان نبات ولا حياة،  عند ذلك، سبح بحمد ربك، الذي أبدع الكون، “وخلق كل شيء فقدره تقديرا”.

_____________
*كاتب سوري متخصص في الشؤون العلمية والتقنية

+ -
.