«فاتكا» يدفع الآلاف إلى التخلي عن الجنسية الأميركية

من السعودية إلى سويسرا، مرورا بكندا وصربيا، يواجه عالم المال والأعمال حول العالم إرباكا منذ بداية العام لبدء تطبيق القانون الأميركي الخاص بالالتزام الضريبي الخاص للحسابات الأجنبية، أو ما يُعرف بقانون «فاتكا» الذي أصبح ساريا ابتداء من بداية يوليو (تموز) الماضي، وسيُطبق بشكل كلي بحلول مارس (آذار) 2015. ويلزم القانون الأميركي المصارف بالتبليغ مباشرة عن المكلفين بالضرائب، كما يفرض لائحة عقوبات على أي مصرف لا يلتزم ببنوده تصل إلى حرمانه اعتماد جهة مصرفية أو مالية أميركية لتقوم بدور تمثيله أو المراسلة أو حتى فتح حساب مصرفي له لدى المصارف الأميركية، وبالتالي يصبح غير قادر على إجراء المقاصة بالدولار الأميركي.

 

وقد وقعت الولايات المتحدة حتى الآن اتفاقات مع 40 دولة تسهيل العملية البيروقراطية المعقدة، ووضع مواعيد محددة لبدء التطبيق التدريجي للقرار الذي ينص على متابعة كل شخص يحمل الجنسية الأميركية لدفع الضرائب للولايات المتحدة. كما أن وزارة الخزانة الأميركية توصلت إلى تفاهمات مبدئية مع 61 دولة أخرى للالتزام بالقانون الأميركي الجديد. ويُذكر أن الولايات المتحدة هي واحدة من دولتين فقط تفرض على مواطنيها دفع الضرائب لبلدهم حتى وإن كانوا يقيمون في دولة يدفعون لها الضرائب. إريتريا هي الدولة الثانية. وبينما يعمل 7.3 مليون أميركي خارج الولايات المتحدة، أظهرت البيانات الحكومية الأميركية أن 565 ألفا منهم فقط يدفعون ضرائب للخزانة الأميركية، بينما غالبهم يدفع ضرائب في مكان عمله وإقامته. وهذه الإجراءات الجديدة تؤثر على 77 ألف مصرف حول العالم عليها تقديم بيانات متكاملة حول من يحمل الجنسية الأميركية، أو هناك شكوك بأنه يحمل الجنسية الأميركية.

 

وتصل الغرامات المتعلقة بعدم دفع الضرائب إلى مئات الآلاف، وحتى إذا لم يكن الأميركي متهربا من الضرائب فعدم تسليم الوثائق المعينة بحد ذاته قد يعني دفع غرامة عشرة آلاف دولار. وبعد إعلان واشنطن عام 2010 سعيها لملاحقة الأميركيين حول العالم لدفع ضرائبهم للخزانة الأميركية، وبدء تطبيق قانون «فاتكا»، بات حاملو الجنسية المزدوجة أكثر المتأثرين بالقرار. وبينما تخلى ثلاثة آلاف من حاملي الجنسية الأميركي عن جنسياتهم العام الماضي، وهو ثلاثة أضعاف عدد عام 2012. أظهرت وثائق حصلت عليها «الشرق الأوسط» تخلي 600 أميركي عن جنسياتهم بين مايو (أيار) ويوليو (تموز) الماضي فقط، وأفادت مصادر أميركية لـ«الشرق الأوسط» بأنه من المتوقع أن يصل عدد المتخلين عن الجنسية الأميركية إلى أربعة آلاف هذا العام. وفي وثائق أصدرتها وزارة الخزانة الأميركية يوم الخميس الماضي، تخلى أميركيون يحملون ألقابا عربية مثل «معلوف» و«النقيب» عن جنسياتهم هذا الصيف، ولكن لم تكشف وزارة الخزانة الأميركي عن الجنسيات المزدوجة الأكثر تخليا عن جنسياتها الأميركية.

 

وهناك تأثير مباشر على الدول العربية، من حيث الأميركيون العاملون في الشركات العربية ولديهم حسابات في بنوك عربية، أو العرب الحاملون جنسية مزدوجة. وكشفت مصادر مصرفية في عدد من دول مجلس التعاون الخليجي عن بدء عدد من المصارف بإجراءات الكشف عن بيانات حسابات العملاء من الأميركيين أو ممن يحملون الجنسية الأميركية، إضافة إلى جنسيتهم الأصلية، وذلك لتطبيق «فاتكا». وتوجهت المصارف في السعودية في أعداد بعض الإجراءات للأشخاص الذين يحملون الجنسية الأميركية، أو ممن يحملون جنسية مزدوجة تتضمن إحداها الجنسية الأميركية من اكتسابها بمختلف أشكالها، تشمل من ولدوا في الولايات المتحدة ويحملون جواز سفر أميركيا، حيث يُفترض من الأشخاص الذين يقعون تحت هذا الوضع أن يفصحوا عن وضعهم المالي.

 

وذكرت المصادر أن مؤسسة النقد العربي السعودي (ساما) دعت البنوك إلى أهمية إفصاح من ينطبق عليهم ذلك القانون عن وضعهم المالي والقانوني في حال كانوا يحملون الجنسية الأميركية، في الوقت الذي يتوقع أن تكون المرحلة الأخرى ملزمة للإفصاح من الشخص نفسه، في حين يفتقد الكثير ممن وُلدوا في الولايات المتحدة الأميركية معرفة إن كانت تنطبق عليهم الشروط أم لا، وعليه فإن عليهم مراجعة وضعهم حتى لا يتعرضوا لصعوبات مستقبلا.

 

وقال فضل البوعينين الخبير الاقتصادي السعودي إن القرار الذي صدر في الولايات المتحدة أصبح قرارا ملزما لمن يحملون الجنسية الأميركية، في الوقت الذي يحمل فيه صورة الاتفاقية، فإنه يجب على المواطن الأميركي أن يفصح عن وضعه المالي، مع اكتشاف حكومة الولايات المتحدة عن وجود تهرب ضريبي كبير ممن يحملون جنسيات مزدوجة من خلال الحسابات المصرفية خارجها، وبالتالي أصبحت تلك الدول مطالبة بالكشف عن تلك الحسابات.

 

وأضاف البوعينين في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أن عملية التهرب الضريبي لم تعد تؤثر على المواطن الأميركي فقط، وإنما قد يصل تأثيرها إلى المصارف التي تخفي المعلومات التي كان من المفترض الإفصاح عنها، وقد تتعرض بعض المصارف التي تخفي تلك المعلومات لعقوبات أميركية.

 

وتابع: «توجهت الآن البنوك في السعودية لأن يكون هناك إفصاح ممن يحملون الجنسية الأميركية عن وضعهم المالي والقانوني، بل إن النطاق يشمل كل من يثبت أن مولده مسجل في الولايات المتحدة الأميركية، واستفاد من ذلك بحمل الجواز الأميركي، أو إثبات عكس ذلك؛ أنه لم يحصل على الجواز الأميركي للخروج من دائرة هذا القانون».

 

ويهدف القانون بشكل أساسي إلى ملاحقة حملة الجنسية الأميركية أو حملة حق الإقامة في أميركا، الذين يعيشون خارج أميركا ولا يدفعون الضرائب، أو الذين لا يقدمون الإقرارات السنوية المطلوبة للإفصاح عن دخلهم وعن حساباتهم المالية، الأمر الذي يُعدّ واجبا على كل أميركي أو حامل لحق الإقامة في أميركا، سواء أكان يعيش بأميركا أو خارجها.

 

وكان لبنان من أولى الدول العربية في التعامل مع وزارة الخزانة الأميركية للتوصل إلى اتفاق ينظم تطبيق القانون الجديد. منذ منتصف هذا العام اكتملت جهوزية كل المصارف في لبنان وشرعت في التزام القانون الخاص بمكافحة التهرب الضريبي للأميركيين خارج بلدهم. وعلم أن نحو مائة مؤسسة مصرفية ومالية وتأمينية أبرمت اتفاقات مباشرة مع الدائرة المختصة في وزارة الخزانة الأميركية، لتطبيق التعليمات الواردة في القانون. ووردت أسماء المؤسسات اللبنانية ضمن لائحة المؤسسات التي أبدت استعدادا للالتزام، والتي أصدرتها مصلحة الضرائب الأميركية.

 

وأكد رئيس جمعية المصارف الدكتور فرنسوا باسيل أن «المصارف اللبنانية بدأت تطبيق قانون الامتثال الضريبي الأميركي». وقال: «نحن ملتزمون بكل القرارات الدولية، لأن العولمة تدفعنا إلى التقيد بكل القوانين الدولية الصادرة».

 

وبحسب رئيس الاتحاد الدولي للمصرفيين العرب الدكتور جوزف طربيه «فقد أثار قانون (فاتكا) حفيظة وريبة المسؤولين في المصارف والمؤسسات المالية في بلدان عدة أوروبية وآسيوية وعربية، واعتبروا أن تنفيذ القانون قد يكون مكلفا من الناحية المالية، إضافة إلى أن أحكام هذا القانون تخالف السرية المصرفية المعمول بها في بلدان كثيرة. كما أثار هذا القانون تساؤلات عدة حول إمكانية تطبيقه، لا سيما في ظل عدم وضوح أحكامه بالكامل، والنقص في الموارد البشرية لدى بعض المصارف والمؤسسات المعنية. يضاف إلى ذلك الكلفة العالية التي يتطلبها تطبيق أحكام القانون، سواء قررت المؤسسات الالتزام به أم لا». ويرى أنه «بغض النظر عن الأهداف التي يسعى القانون إلى تحقيقها، فإنه يطرح تحديات كبرى وصعوبات حقيقية للمؤسسات المالية والحكومات العربية، حيث تواجه المؤسسات المالية تحديات متشابكة، منها الهيكلي والتنظيمي والقانوني والتجاري والمالي. وتحتاج كثير من المؤسسات المالية العربية، خاصة تلك التي تزاول أنشطة إقليمية ودولية، إلى إجراء تغييرات على أنظمتها وآلياتها لتتمكن من تطبيق القانون الجديد، إضافة إلى أن الجهات الحكومية، خاصة السلطات المشرفة على القطاع المالي والسلطات الضريبية، تواجه تحديات لناحية احترام الالتزامات التي تفرضها القوانين أو الاتفاقيات الدولية».

 

ويوضح الخبير المصرفي علي بدران لـ«الشرق الأوسط» أن المصارف اللبنانية بدأت باستكمال الاستعدادات فور تبلغها إشعارا من البنك المركزي، أواخر العام الماضي، بضرورة اتخاذ الإجراءات كافة، ضمن المهل المحددة في قانون الامتثال الضريبي للحسابات الأجنبية، والنصوص التنظيمية والمذكرات المتعلقة به، بغية التحوط للنتائج التي قد تنعكس على علاقاتها مع المراسلين في الولايات المتحدة الأميركية، أو المراسلين خارجها المتقيدين بأحكام القانون المذكور عند بدء العمل به.

 

ويذكر الإشعار أنه «تلافيا لما قد يتعرض له القطاع المالي والمصرفي من مخاطر سمعة، وحفاظا على المصلحة الوطنية العليا، ولا سيما على سلامة واستقرار الأوضاع المصرفية، يطلب من المصارف والمؤسسات المالية ومؤسسات الوساطة المالية وهيئات الاستثمار الجماعية العاملة في لبنان، اتخاذ كافة الإجراءات المناسبة على ضوء أحكام القانون المذكور».

 

وباشرت المصارف العربية التسجيل الإلكتروني على موقع إدارة الواردات الداخلية الأميركية، قبل نهاية عام 2013، لتنفيذه بدءا من يوليو 2014 الماضي. وكان على كل مصرف مسؤولية التعرف على دافعي الضرائب الأميركيين من بين زبائنه، ويتوجب التحقق من العملاء الحاليين والجدد بدقة كبيرة، للتأكد من وجود رابط أو مؤشر للولايات المتحدة الأميركية يجعلهم خاضعين للقانون ومكلفين بدفع الضريبة، وبالتالي تقديم معلومات عن حساباتهم، والتصريح بها إلى مصلحة الضرائب الأميركية.

 

واختارت المؤسسات المالية الانضمام والتسجيل لدى مصلحة الضرائب، كل مصرف بمفرده، وبمؤازرة ومساندة لعملية تطبيق القانون، لجهة إصدار التعاميم الخاصة التي تلزم المصارف وتنظم عملية تطبيق هذا القانون.

 

وأفاد مصدر في أحد المصارف الأجنبية بالأردن لـ«الشرق الأوسط» بأنه ابتداء من بداية يوليو، عزمت المصارف الأردنية على تطبيق الاتفاقية وجميع البيانات والسندات لجميع زبائنها، لمنع أي غرامات مستقبلية على المصارف. والأمر نفسه بالنسبة لأوروبا، التي تتمتع باتفاقات تمنع ازدواج دفع الضرائب مع الولايات المتحدة. وأوضح مسؤول من هيئة الضرائب البريطانية لـ«الشرق الأوسط» أن المملكة المتحدة تفاوضت مع الولايات المتحدة بدعم من المفوضية الأوروبية، ومع فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا لمنع التهرب الضريبي من جهة، ومساعدة المؤسسات المالية، خاصة أن القرار جاء في وقت ما زالت المصارف تسعى فيه إلى التعافي من الأزمة المالية العالمية. وأضاف المسؤول الذي طلب عدم الكشف عن هويته أن القانون الأميركي «يضع أعباء كبيرة على الشركات البريطانية في تحديد دافعي الضرائب الأميركيين».

 

واستخدام الدولار وحده سمح للسلطات الأميركية بأن يكون لها حق إبداء الرأي وفرض غرامة قياسية على المصرف، مما أثار غضب السلطات الفرنسية. وآخر الأصوات كان لرئيس الوزراء الأسبق ميشال روكار الذي ندد بـ«تجاوز للسلطة»، في مقالة نشرتها صحيفة «لوموند»، الشهر الماضي، حيث انتقد الولايات المتحدة لقيامها بنوع من «الاحتلال» الاقتصادي يرتكز على مبدأ امتداد تطبيق معاييرها خارج الحدود الوطنية.

 

ومنذ العمل بقانون الضرائب للحسابات الأجنبية (فاتكا) يحق للولايات المتحدة مطالبة عشرات آلاف المصارف بمعلومات مفصلة على حسابات رعاياها في الخارج. وهذه الحملة لمكافحة التهرب الضريبي أيدتها دول كثيرة، لكنها تعرضت أيضا للانتقادات لنزعتها أحادية الجانب.

 

وبينما بدأت القوانين تُطبّق، هناك جهود حثيثة حول العالم لمواجهة القرار الأميركي، من احتجاجات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مثل «تويتر»، إلى مقاضاة حكومات تتعاون مع واشنطن. وفي كندا، حيث يوجد مئات الآلاف من الكنديين حاملي جنسيات مزدوجة، قام مجموعة منهم برفع قضية أمام القضاء ضد الحكومة الكندية لموافقتها على تطبيق القانون الأميركي، مما يعني خرق قوانين الخصوصية لدى مواطنيها. ورأى المدير التنفيذي لشركة «يورو باسيفيك» المالية بيرت شيف أن الولايات المتحدة تضايق أقرب حلفائها منذ بدء التطبيق في الأول من يوليو (تموز) الماضي. وأوضح شيف في مقال رأي نشره على موقعه الخاص، أول من أمس، أنه «بسبب أهمية المعاملات المالية الدولية المستندة إلى الدولار، لدى السلطات الأميركية القدرة على فرض أي شروط تريدها على الجميع»، محذرا من التداعيات على الأميركيين المقيمين خارج بلادهم، الذين باتوا يواجهون صعوبات في التوظيف أو حتى فتح حسابات في المصارف الخارجية.

 

ومن المرتقب أن تزداد الاحتجاجات على القانون الأميركي خلال الفترة المقبلة، خاصة أن الولايات المتحدة ترفض منح دول أخرى الامتيازات نفسها في الاطلاع على التفاصيل الخاصة لمن يقيم في الولايات المتحدة ويحمل جنسية أخرى.

+ -
.