فهد الحلبي.. فنان على الحافة

z
الفنان فهد الحلبي – الصورة من موقع ultrasawt.com

فهد الحلبي مفاجأة. قد تمرّ به بلا اكتراث حين تراه عاملًا في ورشة بناء، أو حين تعرف أنّه طبّاخ في مطعم إيطالي. لكنّ عدم الاكتراث سوف يتحوّل إلى لوم قاس للذات حين تَعْرف أنّه فنّان. معادلة فهد الحلبي مختلفة كليًا، فليس الفنان من يعطي العامل قيمته، كما سنظنّ نحن المتكبرين الذين نمرّ به. بالنسبة له، الفنّان هو العاديّ والهامشيّ، والعامل اسم وهوية.
تلك عقدة هذه الشخصية، ولكي تحلّها ينبغي أن تكون راويًا قادرًا على التوحّد بالحكاية، وبخيارات شخصيتها، إلى درجة التبني، أو التقمّص.
*

أنا فهد الحلبي، فنّان من الجولان السوريّ المحتل. ولدتُ في الظلّ، وفي الظلّ وجدت ملامحي. مكاني؛ قرية مجدل شمس، ليس سوى ظلّ مكان، بسبب الاحتلال طبعًا، وانغلاق المجتمع على نفسه. زمني ظلٌّ أيضًا، فحينما يحتلون مكانك ويسلبون هويتك، يقع زمانك أوتوماتيكيًا تحت الاحتلال.

أنا ظلالُ رجلٍ ومكان وزمان.
*

العمل لعنته. صحيح أنه حدّد ملامح الفنان والإنسان فيه، لكنه في الوقت ذاته أوقعه في قبضة الأسر في سجون الاحتلال في السنوات الأربع الأولى من شبابه. آنذاك كان يفهم أن العمل انغماس في حلم الحرية. العمل قاد إلى الأسر، والأسر قاد إلى فهم العمل كصانع للحياة، وفرصة ليظهر الإنسان أفضل ما فيه.

جاء ذلك الاعتقال على خلفية مشاركة فهد الحلبي في الحراك الجولاني الرافض للهيمنة الاستعمارية. فمنذ الحادية عشرة من عمره، تفتحت عيونه على فرض جيش الاحتلال للهوية الإسرائيلية بالقوة، تنفيذًا لقرار ضمّ الجولان الصادر في 14 كانون الأول/ديسمبر 1981، الذي كان الردّ الشعبي عليه إضرابًا شاملًا بدأ في 144 شباط/فبراير 19822، وشعاره الأساسي رفض الجنسية الإسرائيلية. بعد ستة أشهر انتهى الإضراب، مع ضمانات بعدم فرض الجنسية.

كان الإحياء السنوي لذكرى هذا الإضراب، وكذلك إحياء ذكرى الجلاء في 17 نيسان/إبريل، مختبرًا لتشكيل الوعيّ السياسي الجولاني، وقد انخرط فهد الحلبي في العمل والنشاط المقاوم، أواخرَ الثمانينات، حيث ساهم آنذاك في كتابة الشعارات والرسومات التحريضية على اليافطات. ومن المعروف أن أنشطة أقل من ذلك كانت تقود إلى السجن، مثل رفع العلم السوري. ولهذا لا ينظر إلى اعتقاله بمنظور بطولي، بل كتجربة شخصية جاءت في سياق طبيعي.

في 1989، حُكم عليه بالسجن لسبع سنوات، أربع منها مع التنفيذ، وثلاث مع وقف التنفيذ. على خلفية حزمة من اتهامات سلطة الاحتلال التي توزعت بين إرهاب وتخريب.

في المعتقل، كان الرسم عزاءً شخصيًا، ونوعًا خاصًّا من استثمار الوقت، لا سيما أن وقت السِّجن يتحوّل إلى حالة كاملة من البياض، تشبه إلى حدّ التطابق سطح اللوحة. وقت السجين أبيض، وعليه ملؤه بالحياة، لذا كثيرًا ما كان يرسم بورتريهات لزملائه أو لذويهم، بحيث يحتفظ الأهل بوجه الابن، ويحتفظ الابن بوجوه الأهل. تقريبًا كانت البورتريهات نزعًا متخيّلًا للقضبان، وتقليصًا متعمّدًا للمسافة بين الغائبين قسرًا عن بعضهم البعض.
*

سحرني خط أبي. كلما رأيته عاكفًا على نسخ كتب “الحكمة”، مزخرفًا صفحاتها، مُجلِّدًا إياها. أبي فنان في سبيل الدين. صنعتُ افتراقي عنه، لكن حروفه وكلماته ظلّت تسلب قلبي على الدوام.
في المدرسة الابتدائية، كنت أرسم، بطلب من المعلم، حيواناتٍ على السبورة. كانت مكافأتي الأولى سندويش فلافل، التهمتُهُ مُدركًا أن الرسم قادر على أن يكون عملًا.

في بداية الثمانينات، وكنتُ قد وصلت إلى المرحلة الإعدادية، افتتح الفنان حسن خاطر أول دورة فنون للأطفال. ترددتُ عليها، وكانت بمثابة الفرصة الأولى للاطلاع على الفن بشكل ممنهج.
*

بعد السجن، وخلال فترة الدراسة الجامعية، بدأ فهد الحلبي يدرك أن القرية لا تمتلك أي أفق للتطور. صحيح أن القرى كلّها على هذه الشاكلة، لكنّ في قرى الجولان، حيث تتداخل سلطتا الدين والمجتمع، يصبح من الصعب على الفنان أن يكون حرًّا. حاول أن يغادر البلاد، لكن وضع الجولاني القانونيّ كـ”غير معرّف”، حسب القانون الإسرائيلي، شكّل عائقًا أمام الحركة، وضغطًا نفسيًا كبيرًا.

وجد نفسه يعيش على الحدود بين القرية والمدينة، ولم يكن في أيِّ منهما، فهم ذاته كإنسان واقع تحت الاحتلال، وفهم هويته الممزقة، لكنّ علاقته مع القرية كانت تتحوّل إلى معادلة معقدة، تشبه فكرة التحرّر من الاستعمار نفسه.

لطالما تمنى فهد الحلبي أن يدرس في جامعة دمشق، ليكون في سوريا المحلومة، وليتخلّص من العيش على حواف حادّة، لكن ذلك لم يحدث. لا يحقّ للسجناء في قوانين الاحتلال أن يسافروا. كانت الجامعات العبرية هي الخيار الوحيد. الأمر الذي سينعكس لاحقًا على شكل تجاهل من قبل الأوساط التشكيلية العربية، لكونه درس في “إسرائيل”.
*

لم تستطع مجدل شمس أن تكون قريةً ولا مدينة. ليست علمانية ولا متدينة، هويتها ضائعة بين شرقيةٍ مُستعمَرة، وغربيةٍ مُستعمِرة.

عشتُ على الحدود، متذوقًا متعتها ومرارتها في آن.
*

يشتبك فهد الحلبي في مختلف مشاريعه بالسياسة، تعبيرًا عن الوضع الاستعماري الذي نشأ فيه. فنّ يخرج من الصّدام، لكنه يعي أنه في النهاية سيكون فنًّا لا عملًا سياسيًا. ولعل المشروع الذي رافقه لسنوات طويلة، وأنتج فيه الكثير من الأعمال المختلفة هو عالم البناء.

shareيشتبك فهد في مختلف مشاريعه بالسياسة، تعبيرًا عن الوضع الاستعماري الذي نشأ فيه
بدأ الأمر من الانتباه، من موقعه كعامل في ورشات البناء في ظل الاحتلال، إلى أنّ هذه المهنة مخصّصة للعرب، وأنّ هذا التقسيم غير بريء، بل على اتصال بالعقلية الصهيونية العنصرية، التي تعتبر العرب في أسفل السلم الاجتماعي، وبالتالي نصيبهم هو هذا العمل الشاق.

اقرأ/ي أيضًا: محمود فهمي عبّود.. الجسد الأنثويّ صرحُ المدينة

تتلمّس اللوحات التي أنتجت في هذا المشروع جمالًا في عالم يبدو بعيدًا عن الجمال. وهي أيضًا مقارنة بين العمل في الورشة والعمل في المرسم، وفحص لقيمة العمل بين المكانين، فحيث يأخذ بناء جدار في الحالة الأولى عدة أيام مقابل ثمن زهيد، قد يصل ثمن لوحة مرسومة في ساعات قليلة إلى مبلغ كبير.

يُقدّر العمل الفني ويُحطُّ من شأن العمل اليدوي. يهان العامل وينتهك يوميًا، بينما مصير الفنان في النهاية الاحتفاء. ليس المشروع هجاء للفن، وليس مديحًا للعمل، بمقدار ما يحمل تساؤلاته المفتوحة: هل العمل الفني أهمّ من العمل اليدوي؟ ما هي قيمة الفن في المجتمع؟ ما هو دور الفن؟

هي مشاهد أو لقطات تصويرية، تُرى للوهلة الأولى وكأنّها محايدة، بسبب عدم ظهور العامل البشري. أعمال تنتمي إلى الطبيعة الصامتة، وتقترب من التجريد، لكنها مع ذلك واقعية.

ثمة لوحة تصوّر قضيبين متصالبين من الحديد، بينهما سدادة زجاجة “كوكا كولا”. لوحة أخرى هي عبارة عن قطع خشب مكومة فوق بعضها البعض. دائمًا ثمة ما يشير إلى إنسان غائب، كان هنا وقام بهذه المهمة. غياب الإنسان رفض صريح لاستدرار التعاطف.
*

أتخيّل نفسي العامل الذي رصف هذا الطريق، أو بنى هذا الجدار، أو حرّك تلك الرافعة، ثم أتخيّل أنني الشخص الذي رسم كل ذلك. هذه هي قيمة الفن كفنّ، وهذه هي قيمة الفن كعمل.
*

جاء مشروع فهد الحلبي الأخير المعنون بـ”هجرة” بتأثير من أحداث الثورة السورية، التي جعلته يحسّ بسوريته من جديد، بالإضافة إلى تعرفه على السوريين في المنفى الألماني الذي وصله منذ حوالي أربع سنوات.

تحاول أعمال “هجرة” أن تجعل اللوحة محاكيةً لفن الغرافيتي، إذ تلتقط مشاهد من أوديسة التّيه السورية: قارب في الليل، مشاة يعبرون في البراري، يد طفولية متمسكة بدمية.. صور كأنها ذكرى لا يمكن محوها، على حامل قوي للمشهد أشبه ما يكون بالجدار يحمل رسومات في شارعٍ ما.

لا شكّ أنها تجربة صعبة لكونها لا تخلو من مباشرة، نتيجة اتصالها الوثيق بالصورة الإعلامية، ولأجل تجنّب فخ موضوع معروف، يحاول فهد الحلبي أن يصل إلى خصوصية ما من خلال تنوع التقنيات والمواد، وتخفيف كثافة الألم في الصورة الإعلامية، وجعل المشهد مرتبطًا بالتاريخ الإنساني الذي صاغه فعل الهجرة.

اقرأ/ي أيضًا: اثنان وسبعون عامًا في لوحةٍ تشكيليّة

تحدثنا عن مشروعين بارزين شغلا فهد الحلبي في الفترة الأخيرة، لكنه عمل من قبل على مشاريع مختلفة، منها الاشتغال على مشهدية القرية، وكذلك فحص العلاقات البطريركية التي تحكم العائلة، بالإضافة إلى مشروع بحث في العلاقة الشائكة بين الدين والمرأة.
*

سوريتي إشكال. مزيج غامض من الحنين واليوتوبيا والهرب من واقع الاحتلال. عشتُ حياتي في هذا الغموض الذي كان كل مرة يتخذ شكلًا جديدًا، إلى أن جاءت الثورة السورية وحلّت المعضلة، حيث خلّصتني من الرومانسية، ووجدتُ أنني بدأت أعرّف ذاتي بالاستناد إلى سؤال الحرية الذي رفعه السوريون، فتلك هي اللحظة التي كنت أنتظرها منذ دخلتُ إلى الحراك الجولاني، لكن وقتها كان السوريون غير مبالين بنا، نحن الجولانيين، وكان السؤال المُقلق: لماذا أنتمي إليهم وهم خاضعون لسلطة باعت الجولان ثمنًا لبقائها؟

نقلت الثورة سوريتي من حيّز الحلم والحيرة إلى حيّز الفعل والتحقّق. أعطتني تعريفًا نهائيًا لذاتي، بعد هوية عانت القلق والتمزق في ظل الاحتلال، والتنميط في ظل العرف الريفي المغلق، والضياع في المنفى.
*

بحكم اشتغاله في البناء، نمت لدى فهد الحلبي علاقة خاصة مع المادة، وصارت التقنية هاجسًا بحد ذاته، يأخذه دومًا إلى التجريب، فتراه يمزج الإكريليك والألوان الزيتية، وألوان البخ، كما تراه يستعمل موادَ كالزفت. يفعل ذلك لأجل اللعب على طبقات اللوحة، وتفاعل المواد مع بعضها البعض، ليعود لاحقًا ويجسر الهوّة بين العفوي والصدفة من جهة، وبين الرؤيا والهدف من جهة أخرى.

بين كيمياء الألوان، وفيزياء الأشكال، وفلسفةٍ خاصة للبشر والأمكنة؛ بات الفنّ مبرّرًا للوجود بالنسبة لفهد الحلبي، صحيح أنه لا يزال حائرًا يترنّح على حواف القلق الأولى، لأنّ سؤال الهوية لا يزال مفتوحًا على اتساعه، لكنه في الوقت نفسه لا يتوقّف عن اكتشاف ملامح جديدة، يومًا تلو يوم، في ذاته؛ اللوحة التي تظل قيد التشكّل دومًا.

تعليقات

  1. المقال الأصلي في التراصوت فيه اعمال فنية جميلة يدور النص حولها.. لماذا اختفت هنا؟

  2. اشخاص كفهد الحلبي هم كالألوان الدافئه التي عندما تلتقي على قطعة من القماش تشكل احلى واروع اللوحات.. لكن وللأسف نحن نعمل على تفريق الالوان وتصنيفها وحتى نبذها ان لم يعجبنا اللون ..اشخاص كفهد الحلبي وجدت لتبني وتبدع وتتألق لكن وللاسف لم نعد نرى سوى بريق ملابسنا وتألق ذواتنا الفارغه..عملنا جاهدا لبتر اغصانهم الخضراء النضره الغائصه في السماء كي لا نرى ما هو أسمى من اغصاننا الجافه البائسة ..قمنا بتلويث الوانهم غيرة وحسدا كي لا نرى ما يفوق الواننا الباهته جمالا ..ان كان لنا مستقبلا ذو امل فهو بايدي اشخاص كفهد الحلبي ..فمن يرشق الالوان بفرشاته على لوحه بيضاء ليصنع حلما او املا قد يستطيع انقاذنا من ما آلت اليه حالنا ..فان الواننا الباهته الخافته ستختفي قريبا لنصبح كلوحه بيضاء فارغه ..وهي تحديدا ما يحتاجه اشخاص كفهد الحلبي مع تسليحهم بالتقدير والاحترام والادوات اللازمه ..كم اتمنى ان ارى يوما ان من يدير دفة سفينتنا هو شخص كفهد الحلبي وفي سفينتنا العديد والعديد من الفهود ..

    تحياتي لك فهد اينما كنت …

التعليقات مغلقة.

+ -
.