لا نريد زعيما ملهما او قائدا مظفرا.. كفايه بقى!

حتى إن فوجئت بما أقوله لك الان.. وغضبت أو سخرت وشتمت أو إنفعلت وبالغت في رد فعلك.. فسأبقى كما أنا، رافضاً خداعك كما تخدع انت نفسك او يسعدك جدا ان يخدعك الاخرون.

فلا مصر اجمل بلد في الدنيا.. ولا نحن الشعب الأقوى والأذكى. وأظن انه كفانا كلنا خداعا لأنفسنا. فنحن استسلمنا كثيرا وطويلا لهذا الخداع. احتجنا إليه أولا واستمتعنا به لاحقا ثم أصبحنا كلنا الان ضحاياه. احتجنا إليه كما يحتاج أي إنسان في أي أزمة او محنة لأن يقنع نفسه بأنه بخير وبانه قوي وقادر على اجتياز أي شيء والإنتصار على اي ضعف او حزن أو ألم. واستمتعنا به متعة الذي يفيض واقعه الحقيقي بالكثير من الملح والمرارة والإخفاق والإحباط فيلجأ احيانا لكثير أو قليل من الخيال والوهم والمبالغة.

يبدو أن احتياجنا واستمتاعنا بهذا الوهم طال أكثر مما يجب وتجاوز الحد الأقصى الذي يقبله الواقع وتعترف به حقائقه. فهذا الوهم الذي تعاطيناه من قبل طويلا كمجرد مسكن لأوجاع سياسية واقتصادية واجتماعية وإنسانية، أصبح واقعا لا يعيشه أو يراه أو يعترف به إلا نحن انفسنا فقط. ونحن بالتأكيد أحرار في أن نرى أنفسنا وبلادنا بالشكل الذي يرضينا ويمتعنا أيضا. ولكن علينا في هذه الحالة ان نتوقف عن ممارسة أي حلم وانتظار أي تغيير حقيقي. فالذي يتغير هو الذي ينشد الأفضل وليس الذي يتوهم أصلا أنه الأفضل. الذي يريد تجميل بلاده هو صاحب العينين المفتوحتين على عيوب بلاده وما فيها من قبح وليس الذي يراها زوراً انها بالفعل أجمل بلاد العالم. الذي يريد الأمان هو الذي بالفعل يشعر بالخوف. الذي يريد الحب هو الذي بالفعل ضاق بالكراهية والشرور. الذي يريد المستقبل هو الذي أبداً لا يرى أن الحاضر رائع وجميل وانه ليس بالإمكان أحسن مما كان.

وان كنت انت تعارضني وستبقى كذلك مصدقا اننا احسن شعب في العالم وان بلدك حاليا هو اجمل بلاد الدنيا، فهناك غيرك من يشاركني الرأي ويرى أننا تغيرنا او يجب ان نتغير لكي نصنع الأفضل الذي نعيشه في أيامنا وفوق أرضنا وليس في أوهامنا وأغانينا وخيالاتنا.

هناك كثيرون مثلي. كلنا الان مقتنعون بانه ليس من حقنا الحلم بوطن اوروبي المقاييس والحقوق والصفات والحسابات دون ان ندفع الثمن الذي دفعه قبلنا اي شعب اوروبي حتى يحقق هذه الصورة التي نراها الان هناك واقعا وحقيقة. فليس من العدل ان نطلب شيئا لم ولن ندفع ثمنه. فالذي يريد الإستمتاع بتحقيق أحلامه عليه ان يحرص على تحقيقها أولا تعبا وإصرارا وإجتهادا ومعاناة قبل الفرحة أو المتعة.

نحن في مصر كنا طوال الوقت نريد ان نكون كالأوروبيين أو الأميركان ولكن لم نكن على إستعداد لأن ندفع اي ثمن على الإطلاق. فتلك الشعوب تحملت كثيراً.. صبرت كثيراً.. سددت فواتير الصراعات والدم والحروب الاهلية والخوف والموت حتى تنعم الان بكل ما هي فيه. اما نحن، فلا أعرف من أين أتينا بهذا التصور الغريب الذي سمح لنا بأن نحلم بالإنتقال من الديكتاتورية إلى الديموقراطية.. ومن دولة الفساد والظلم إلى مجتمع العدل والنور.. ومن زمن العشوائيات والتخلف والفقر إلى أيام الإستقرار والرخاء والبناء.. وكأننا نستقل سيارة أجرة تنقلنا من هنا إلى هناك.. ومن ميدان إلى ميدان.. أو كأننا نستعد للنوم في بلد وسنستيقظ لنجد أنفسنا في بلد اخر. وفي الحقيقة، حتى سيارة الاجرة يجب ان ندفع لها ثمنا. والإنتقال من بلد إلى بلد يلزمه تخطيط وأعباء وترتيبات وتضحيات لابد أن نقوم بها أولا قبل الوصول إلى مكاننا الجديد.

التغيير مكلف

أعرف أن كثيرين منا الان تعلموا هذا الدرس البسيط البدائي جدا وهو أن لكل شيء ثمنا، وأن الذي يريد أي تغيير في حياته عليه ان يدفع أولا ثمن هذا التغيير. واتمنى أن يدرك ذلك كل هؤلاء الذين في بيوتهم ومكاتبهم. الذين كانوا لسنوات أو سنين طويلة سابقة يمضون الوقت في الشكاوي والتعبير عن الإستياء والإنزعاج.

النساء في البيوت يشكين غلاء الأسعار.. أسعار الطعام والتعليم والدواء والثياب وكل خدمات الحياة ولوازمها. والرجال يشكون مظالم العمل ومطبات وعوائق في اي مجال. وكلهم معا يشكون غياب العدل وتضييع الحقوق وإهدار المكانة والكبرياء في أي مكان وأي وقت ولأي سبب. وحين يجري ما هو من شأنه تغيير كل ذلك، تجد هؤلاء النساء والرجال يرفضون هذا التغيير ويخافون منه او يرفضون سداد ثمنه. أي انهم لا هم راضون عن حياتهم التي كانت، ولا هم يريدون التغيير لحياتهم التي ستكون.

بدأ هؤلاء يقتنعون اخيراً ويتعلمون أن ما يجري هو الشر الذي لابد منه حتى يأتي الخير. الخوف الذي لابد من ممارسته ليتحقق الأمان في النهاية. هؤلاء جميعهم سيتعلمون، طائعون أو مضطرون، أن بعضا من الخوف وبعضا من الإرتباك، بضعه حوادث وجرائم وقطرات دم وأخبار كثيرة مقلقة، هو في النهاية ثمن طبيعي – وقد يكون قليلاً- لما يمكن ان يحدث بعد ذلك. سيصبح لكل واحد منا حقوق يحترمها الاخرون وكبرياء غير قابلة للإنكسار في أي وقت وصوت عال يسمعه الناس بعد زمن كان فيه الواحد منا لا يصرخ إلا داخل نفسه أو وراء الأبواب المغلقة. وقد بدأنا بالفعل نشهد هذا التغيير ونعيش بداياته. وتلك البدايات هي التي تجعلني أتفاءل الان بما سنكون عليه حين تكتمل رحلة إنتقالنا وتحقيق كل أحلامنا التي كانت دوما مؤجلة أو مستحيلة.

أهم درس

اما أهم دروس حياتنا على الإطلاق، التي تعلمناها بعد كل هذا الذي جرى طيلة السنوات الثلاث الماضية فهو ألا نمنح أي أحد بعد ذلك مهما يكن مكان هذا الشخص أو مكانته وسيرته وصورته، تأييدنا الكامل وثقتنا المطلقة دون قيد او شرط، ودون حق الحساب والمراجعة والمساءلة.

لم نعد نريد زعماء من أي نوع وبأي شكل. لم نعد نجلس على أرصفة التاريخ والأيام ننتظر قدوم صلاح الدين أو جمال عبدالناصر. لم نعد نريد أو ننتظر أي أحد. فقد كنا دوما نتصور أن الشعب مثل أي طفل يظل يبكي ويصرخ حتى تأتيه الأم أو الأب ليغمض هذا الطفل أخيرا عينيه مطمئنا وعارفا أنه قد جاء الأمان والحنان والطعام.

لكننا اليوم وبعد اليوم لن نبقى ولن نرجع أطفالا مرة أخرى. لن نفتش عن أب جديد لشعبنا. ولم نعد نحتاج أصلا إلى هذا الأب. لا ننتظر ولن ننتظر ولن نفتش عن أي زعيم اخر. فقد تعلمنا ألا يحكمنا بعد اليوم من نغمض معه أعيننا ونغلق أفواهنا ليأخذنا إلى حيث يريد هو حتى إن كان ما يريده يخالف هوانا ورغباتنا وحسباتنا وأحلامنا.

من اليوم أصبحنا نعرف أننا لا نحتاج إلا إلى موظفين فقط يعملون عندنا ومن أجلنا. موظفون بدرجة رئيس جمهورية ورئيس حكومة ورئيس برلمان ووزراء ونواب ومحافظين ومدراء. يعملون كلهم بصلاحيات محددة وشروط مؤكدة ولفترة معلنة. فلن تخدعنا بعد الان أي أقنعة زائفة أو وجوه مزورة أو شعارات خادعة. ولن نذهب مرة أخرى الشهر العقاري لتسجيل توكيل عام ومطلق باسمنا لأي أحد من هؤلاء السياسيين والعسكريين والمسئولين والإعلاميين، ونتحول نحن إلى مجرد كتلة أسماء وأرقام يتاجر بها أو يتفاوض عليها أو يحتفظ بها في جيبه أي من هؤلاء. فقد كنا معظم الوقت من الوداعة والطيبة بحيث سمحنا لكثيرين بخداعنا والمتاجرة بنا والحديث والقرار بالنيابة عنا، سواء أكان هؤلاء الكثيرون كباراً أصحاب خبرة وتجربة او شبابا أصحاب ثورة وجرأة، أم كانوا شيوخا وقساوسة وأساتذة وعلماء ورجال قانون وسياسة وأفاقين ولصوصا ومهرجين وممثلين.

يكفي جداً التفاتة سريعة وعابرة نقوم بها الان كلنا إلى الخلف قليلا لندرك كم مرة تعرضنا للخداع من سياسي أو مسئول أو إعلامي. وقتها، سنكتشف كم مرة كنا مضحوكا علينا. كنا أصفارا وبقينا أصفارا. لكنهم وحدهم الذين صدقناهم هم الذين ربحوا كل شيء دون أن يكترثوا بنا وبأوجاعنا وهموم ومرارة أيامنا.

والان، باتت هناك في كل ميدان للتحرير في أي مدينة مصرية وجوه كثيرة لم تعد تفتش عن قائد أو زعيم بقدر ما باتت تفتش عن وطن ومستقبل وحياة.

_________________________________

محمد علي إبراهيم: رئيس تحرير صحيفة الجمهورية سابقا – مصر

+ -
.