مانتوفا.. فيها تتنفس حب روميو لجولييت

في رحلة قصيرة جدا لم تتجاوز ثلاثة أيام، اكتشفت جزءا جديدا من إيطاليا بعيدا عن المدن الشهيرة وزحامها، فقد أخذتني الزيارة لمدينة مانتوفا بشمال إيطاليا، في صيف حار ووسط سحابات طائرة من قطع صغيرة من القطن الأبيض، التي تدفعها الرياح في كل مكان من على الأشجار المحيطة، لتحط على كل الأسطح الممكنة، فهي على السيارات وفي الشوارع وعلى النوافذ. وتبقى تلك السحابات جزءا مميزا من ليالي الصيف في هذه المدينة الوادعة، ولا تطغى على الانطباع الفوري الذي ينبعث في نفس الزائر من أنه فتح بابا على مدينة تاريخية نائمة. مانتوفا محاطة من ثلاث جهات ببحيرات، شكلت فيما بينها سوارا مائيا صد الغزاة. البحيرات الصناعية حفرت خلال القرن الثاني عشر، وتستقبل المياه من نهر مينشو الذي ينحدر من بحيرة غاردا، وأسماؤها كالتالي: بحيرة سوبيريوري، وبحيرة دي ميدزو، وبحيرة ينفيريوري، أي: «العليا» و«الوسطى» و«الدنيا».




وسط المدينة من أسباب سحر مانتوفا بلا شك، وأيضا أفضل مكان لاستكشاف المباني التاريخية والقصور التي قامت هنا لقرون، كما أنها نقطة الانطلاق لزيارة أرجاء المدينة.

علاقتها بروميو وجولييت

الحي التاريخي مصنف من قبل «اليونيسكو» بأنه من مواقع التراث العالمي، ويضم في داخله مجموعة من أقدم وأجمل المباني والقصور التاريخية التي ارتبطت أيضا بعلامات مهمة في تاريخ الفن في إيطاليا. نعرف على سبيل المثال أنها المدينة التي استخدمها ويليام شكسبير لينفي فيها روميو بعد قتله ابن عم جولييت، وفيها يصل إليه خبر وفاتها في «روميو وجولييت». المدينة أيضا مرتبطة بفترة مهمة من تاريخ الأوبرا، حيث ألف الموسيقار فيردي رائعته «ريغيليتو».

مانتوفا (أيضا تنطق: مانتوا) تحمل تاريخا طويلا يعود لعام 2000 قبل الميلاد، حيث بنيت المدينة على شاطئ نهر مينشو، ولعل أشهر فتراتها التاريخية في القرن الرابع عشر مع حكم عائلة غونزاغاس الذي استمر حتى القرن السابع عشر. وخلال تلك الفترة شهدت المدينة تغييرات عمرانية وثقافية ضخمة. ونالت مانتوفا حظها من إشعاع عصر النهضة والرعاية الفنية لعائلة غونزاغاس، حيث توافد عدد من أبرز الفنانين الإيطاليين عليها، وقد عمل رسام عصر النهضة الشهير آندريا مانتينيا في مانتوفا وأنتج بعضا من أبرز أعماله وأهمها «غرفة العروس»؛ (كاميرا ديلي سبوزي). وفي عام 1530 عهد الدوق فيدريكو الثاني للفنان جوليو رومانو ببناء قصر «تي» الشهير على أطراف المدينة، وهو الذي رسم تصميمات سوق السمك القديمة في المدينة.

الحي التاريخي

نبدأ الزيارة من الحي التاريخي الذي يتميز، مثل غالبية المدن الإيطالية، بالأزقة الصغيرة التي تنفرج على ساحة كبيرة. رغم حجمه المحدود، فإنه مليء بالأماكن التي يجب على كل سائح زيارتها. من تلك الأماكن وأهمها بالازو دوكالي، وهو من أقدم وأضخم القصور التي عاشت فيها عائلة غونزاغاس الحاكمة حتى القرن الـ17. زيارة بالازو دوكالي ستستغرق وقتا طويلا من الزائر، ولكن القصر بغرفه وممراته المتشعبة يقدم للزائر مفاجآت معمارية وفنية مثل الحدائق المعلقة، و«كاميرا ديلي سبوزي» حيث تضم جداريات رائعة من عمل فنان عصر النهضة آندريا مانتينيا. لدى دخولي الحجرة، قالت إحدى العاملات في القصر إن «الزيارة يجب ألا تتعدى دقائق معدودة حتى لا تؤثر أنفاس الزائرين على الرسومات الثمينة». ولم يمنع ذلك التحذير من إحساس دافق بالمتعة البصرية لدى مشاهدة الجدارية الرائعة التي تمثل مشهدا لعائلة غونزاغاس. يدخل الغرفة مجموعة من أطفال طلاب المدارس مع أستاذهم، يتحلقون في وسط الغرفة ويشير إليهم معلمهم بالنظر لأعلى، أتابع نظراتهم لأرى لوحة على السقف منفذة ببراعة، تصور نافذة مفتوحة على سماء زرقاء ومجموعة من الأشخاص والشخصيات الأسطورية تطل من أعلى الغرفة أسفل منهم وكأنهم يطلون على بئر عميقة، وهو ما يعززه وجود سطل خشبي على حافة الكوة السماوية. غني عن القول إن الرسومات المحيطة منفذة ببراعة وتسمر الناظر إليها، ولن يمنعه من الاستمرار في اكتشاف تفاصيلها إلا ألم الرقبة.

خارج القصر وفي الساحة ذات الأرضية الحجرية نرى أكثر من وفد من أطفال المدارس، وكأنه يوم مخصص للمدارس لزيارة المتاحف والقصور الموجودة. وبالمشي عبر الساحة نجد على الجانبين مقاهي صغيرة ومطاعم تتسلل منها روائح الأطباق الإيطالية الشهيرة، وهنا يصبح التوقف لتناول بعض البيتزا أو الاسباغيتي والباستا وغيرها من الأطباق الشهية جزءا مهما من الزيارة. اللافت وجود نوع من الحلويات نجده في جميع المحال الموجودة ويطلق عليه اسم «سبريسولانا»، وهو عبارة عن نوع من البسكويت المخلوط مع حبات البندق، ويباع على هيئة دوائر مغلفة بورق السلوفان. وتتبارى المحال في عرض تاريخها في صنع تلك الحلوى، ويصر كل محل على أن صناعته تعد الأفضل.

أين تأكل؟

من المطاعم الشهيرة في مانتوفا، مطعم «فراغوليتا» الشهير بين سكان المدينة، ويقدم الأطباق المحلية للمدينة منذ عام 1748، ويشير النادل علي بتناول الطبق المحلي «رافيولي دي زوكا» وهو رافيولي محشو باليقطين الحلو، وهو طبق أثير لدى سكان مانتوفا منذ القرن السادس عشر. ورغم أن الطبق لم يرق لي، فإن الجو العام في المطعم يغني عن الشبع التام، وأيضا النادل يعوض خيبة الأمل في الطبق الرئيسي بطبق من الفطائر الهشة بالقشطة ومربى التوت البري.

الساحات

من الساحات الشهيرة في المدينة «بيازا ديلي إربي» (ساحة البهارات) التي اكتسبت اسمها من الأسواق الأسبوعية التي كانت تقام فيها، وما زالت الساحة تستضيف سوقا أسبوعية مخصصة في أغلبها للملابس. في أحد جوانب الساحة يشدني منزل صغير بنوافذ بديعة التصميم، فحول كل نافذة إطار من الخشب المشغول وكأنه صنع من الدانتيل، المنزل يعرف باسم «كاسا ديل ميركانتي بونيفورتي» (منزل التاجر بونيفورتي) ويعود لعام 1455.

الوجهة التالية في الزيارة كانت قصر «بالازو تي» الذي أقيم خارج المدينة لفيدريكو الثاني، ويعرف بـ«قصر المتعة»، حيث كان الحاكم وقتها يقيم الحفلات بعيدا عن الرسميات. القصر يعد من روائع المصمم المعماري والفنان الشهير في عصر النهضة جوليو رومانو، وتم بناؤه في ما بين 1525 و1535. غرف القصر توفر متعة بصرية للزائر، فمن الحجرة الضخمة «صالة الأحصنة» التي زينت جدرانها برسومات جدارية لأحصنة عملاقة، إلى «صالة المأدبة»، إلى «صالة سقوط العمالقة» المذهلة بمعنى الكلمة، فالرسومات تغطي جميع جدران الحجرة، وتدخل الزائر لمشهد مخيف يشهد فيه قصة تراثية أبطالها آلهة الأولمب والعمالقة. جوليو رومانو استخدم أسلوبا معماريا ذكيا في إخفاء أركان الغرفة ودمجها بباقي الجدران برسومات ضخمة وألوان حية.

في نهاية الزيارة القصيرة جدا، أجد أن قائمة الأماكن التي كانت تستحق الزيارة طويلة، وهو أمر يغري بالعودة مرة أخرى لمانتوفا الوادعة.

+ -
.