موسكو لن تخرج عسكرياً من المنطقة بعدما بذلت جهوداً للتمركز فيها

يميل فريق مهم من خبراء السياسة الروس إلى تشبيه الوضع العالمي الآن بالمشهد الدولي في العام 1914، خلافاً لما يذهب إليه نظراؤهم في الغرب، بعقد مقارنات مع الموقف عشية الحرب العالمية الثانية. بين الأسباب التي تساق لذلك، أن الظروف الراهنة نجمت عن تشابك جملة من التطورات المعقدة على مستويات محلية وإقليمية ودولية، ولم تكن نتيجة لعملية «استفزاز» مقصودة للظروف قادت إلى تفجير الحرب الشاملة، كما تفاقمت الأمور في العام 1938. وأحد المؤشرات المهمة إلى ذلك «تورط» كل الأطراف الإقليمية والدولية بأدوار متفاوتة قادت إلى نشوء الوضع الحالي.

هل يعني ذلك أن العالم مقبل على حرب عالمية ثالثة كما حذر أخيراً رئيس الوزراء الروسي ديمتري مدفيديف؟

هذا التطور ليس حتمياً. بل هو الأبعد نظرياً كما يعتقد فريق مهم من الخبراء الروس، خصوصاً المجموعة القائمة على نادي الحوار الدولي «فالداي» الذي تحول إلى أبرز ساحة نقاش للقضايا الاستراتيجية خلال السنوات الأخيرة.

يستعد النادي الذي يضم نخبة قريبة من مطبخ صنع القرار في روسيا لعقد ندوة خاصة بالوضع في المنطقة تحمل عنوان «فالداي الشرق الأوسط» وهي الخامسة من نوعها، إنما المهم هذه المرة أنها تعقد في روسيا التي تحولت إلى أحد أبرز مراكز صنع الحدث في الشرق الأوسط. وبحضور فريق كبير من الخبراء من غالبية بلدان المنطقة.

تسعى الندوة إلى إيجاد إجابات على الأسئلة المطروحة الأكثر تعقيداً، حول مآلات تطور الموقف، وظاهرة «داعش»، وآفاق التسوية في سورية، باعتبار أن «سيناريو التسوية في هذا البلد سيشكل موديلاً لتسويات رزمة من المشكلات الإقليمية والدولية» كما قال لـ»الحياة» أندريه بيستريتسكي أحد الرموز القائمة على النادي الحواري.

لا يخفي الخبراء الروس قناعة بأنه مهما كان شكل الحل في سورية سيترك تأثيرات قوية على آليات تسوية رزمة واسعة من المشكلات في الإقليم وخارجه، لكن الأهم من ذلك أنه سيسهم في وضع ملامح النظام الدولي الجديد الذي تصارع روسيا لإيجاد مكانة بارزة فيه.

وخلافاً للموقف عشية انهيار الاتحاد السوفياتي عندما اكتفت النخبة الحاكمة في روسيا وقتها بضمانات «شفهية» بأن يتم احترام مصالح روسيا، تقوم السياسة الروسية الحالية على فرض الضمانات اللازمة عبر الانخراط النشط في كل الملفات الإقليمية والدولية والعمل على «تسخينها» وصولاً لفرض واقع يتناسب مع طموحات روسيا لا يقوم على مبدأ «الصفقة الشاملة» بقدر ما يقوم على فكرة انقلاب موازين القوى بالإفادة من النزاعات والأخطاء التي ترتكبها واشنطن والأطراف الأخرى خلال عملية إدارتها.

لتوضيح ذلك، فإن موسكو وافقت عشية انهيار الدولة السوفياتية على حل حلف وارسو وهدم جدار برلين في مقابل «تعهدات» بعدم توسيع حلف شمال الأطلسي شرقاً واحترام مصالح روسيا في المناطق التي تدخل ضمن دائرة نفوذها الجيوسياسي، لكن النتيجة كانت أن الحلف واصل التمدد شرقاً وسعى إلى فرض طوق أمني وعسكري حول روسيا وباتت واشنطن تقيم في قواعد عسكرية في عدد من الجمهوريات السوفياتية السابقة.

تسعى روسيا المعاصرة إلى إعادة النقاش في هذا الموضوع وغيره إلى المربع الأول، بمعنى محاولة تجاوز عقدين من البحث عن هويتها الجديدة ومكانتها في العالم، ووضع ملامح جديدة لعلاقتها مع الغرب من جانب، ولدورها في المنظومة الدولية ومؤسساتها على الجانب الآخر. وهذا يفسر حديث الرئيس فلاديمير بوتين قبل أسابيع عن ضرورة التعلم من أخطاء روسيا عند مرحلة الانهيار والبناء عليها.

هذه الخلفية تبرز واحداً من أبرز أسباب التشدد الروسي في سورية وفي غيرها من الأزمات الإقليمية، لكنها كما يقول بيستريتسكي لا تعكس «أحلاماً امبراطورية كبرى» عند موسكو، بقدر ما هي مسعى للبناء على المتغيرات المتسارعة في العالم لضمان مصالح موسكو وبشكل يمكنها من بناء علاقات على أسس جديدة مع الغرب.

في هذا الإطار تتباين رؤية الخبراء الروس بشدة بين فريقين، يرى أحدهما أن لدى روسيا «رؤية استراتيجية كاملة» لما تريد. بينما يصر الآخر على أن الاستراتيجية غائبة، ليس فقط عند روسيا، بل وعند غالبية القوى الكبرى في العالم، وأن ما يجري هو التعامل مع الملفات الشائكة ومحاولة توظيفها بأوسع قدر ممكن لخلق أرضية مناسبة لتحقيق الأهداف.

يقول بعضهم أن نجاح روسيا في تسوية الوضع في سورية في شكل مرض لموسكو سيسهم ليس فقط في وضع أسس لتسويات مماثلة إقليمياً ودولياً، بل وفي حل غالبية مشكلات روسيا المعاصرة سياسياً واقتصادياً. باعتبار أنه سيفتح على مراجعة شاملة لعلاقات روسيا مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ومع التكتلات الإقليمية المهمة.

يفسر ذلك انخراط موسكو ومعها كل الأطراف الفاعلة في الشأن السوري بما وصف «إطالة أمد الأزمة» لأن الخروج بهزيمة للمشروع الموضوع أسوأ من فكرة التورط في مستنقع الأزمة، على رغم أن بيستريتسكي يرى أن سورية يمكن أن تتحول إلى «أفغانستان جديدة بالنسبة إلى إيران وليس لروسيا». بينما مشروع تقسيم سورية سيكون أسوأ للروس لأنه يدخلهم في مواجهات متصاعدة بين أطراف عدة ولا يمكن التكهن بنتائجه.

وعلى رغم أن فريقاً من الخبراء الروس يختلف في الرأي حول الفكرة الأخيرة، إذ يرى بعضهم أن «الخطة ب» تتضمن التقسيم، وأن موسكو سوف تضطر إلى اللجوء إلى هذا الخيار إذا وجدت أنها بدأت تخسر رهانها على حل شامل يحفظ مصالحها. لكن يبدو الوضع حذراً بالنسبة للروس لأنه كلما اشتدت تعقيدات الأزمة بات احتمال التورط ميدانياً في شكل أوسع قائماً.

وبعرض سريع لطبيعة تعامل الروس مع الملفات الساخنة، تتضح الهيكلية التي تقوم عليها التحركات الروسية انطلاقاً من سورية وكيف يجري تعميمها إقليمياً ودولياً، بالاستناد إلى غياب الصين لانشغالها بالقضايا الداخلية، وتفاقم مشكلات الاتحاد الأوروبي وتعثر الولايات المتحدة التي «تشعر النخب فيها بالتعب من المشكلات الإقليمية» كما يردد الخبراء الروس.

تنطلق روسيا من المبادئ التالية في صياغة تكتيكاتها واستراتيجياتها حالياً:

– استخدام حال التراجع الأميركي والانقسام العميق داخل الجسد الأوروبي حيال موسكو وجزء مهم منه مستعد لاستئناف العلاقات فوراً والدخول في تحالفات مع روسيا.

– تقديم «البديل» الروسي كوسيط لتسوية المشكلات الإقليمية مثل عرض وساطة بين إيران والسعودية وطرح مبادرات لإنشاء فضاءات أمنية مشتركة (الخليج، آسيا الوسطى الخ) .

– تأسيس هياكل موقتة أو بعيدة الأمد مهتمها العمل على تسوية المشكلات الدولية، لتتحول إلى جزء من منظومة عالمية جديدة تكتمل بإصلاحات محدودة في الأمم المتحدة.

– إيجاد حلفاء إقليميين دائمين ومستعدين للتعامل مع الرؤية الروسية في بناء الفضاءات الإقليمية في المناطق المختلفة (فنزويلا، الهند، مصر الخ).

وتعد مصر الحليف الأبرز الذي تراهن عليه النخبة الروسية حالياً في الشرق الأوسط، ويجمع خبراء السياسة الروس عليها على رغم تباين مواقفهم حيال الحلفاء الآخرين في مناطق مختلفة في العالم.

سورية… رهان على الحل العسكري

لا يبدو فيودور لوكيانوف أحد أبرز الخبراء في «نادي فالداي» ورئيس تحرير مجلة «روسيا في السياسة العالمية» متشائماً وهو يتحدث عن آفاق التسوية في سورية، خصوصاً ما يتعلق بمسار ميونيخ، الذي وصفه بأنه خطوة أولى يمكن البناء عليها. مذكراً بأن تجارب سابقة مثل البوسنة وأوكرانيا دلت إلى أن فرض هدنة بعد صراع عسكري لا يمكن أن ينجح من المرة الأولى، لكن يمكن تطبيقه على الأرض بعد عدة محاولات.

لكن التفاؤل حيال مسار التسوية تقابله رؤية لمستقبل سورية يكاد يجمع عليها كل خبراء السياسة الروس: سورية لن تعود أبداً إلى ما كانت عليه سابقاً، ومن يراهن على استعادة «سورية حافظ الأسد واهم».

بهذا المعنى فإن النقاشات الدولية الدائرة، القائمة على فكرة كيف يمكن الحفاظ على سورية بشكلها الراهن، اصطدمت بمعضلة أنه «لا يمكن الحديث عن مستقبل سورية من دون إحراز نتائج عسكرية على الأرض».

يؤكد لوكيانوف أن روسيا عندما اتخذت قرار التدخل العسكري المباشر كانت تراهن على أن جيش النظام وحلفائه الميدانيين قادرون على تغيير الوضع على الأرض خلال فترة زمنية قصيرة بدعم مكثف من الطيران الروسي، لكن سرعان ما دلت التطورات على أن الرهان كان خاسراً، وفقط خلال المرحلة الأخيرة ومع تكثيف الضربات الروسية واتخاذها أبعاداً أوسع بدأت النتائج العملية بالظهور.

يقود هذا المسار إلى فهم طبيعة المناورات الروسية في ميونيخ وجنيف، فالكرملين «يحتاج بقوة لظهور نتائج معركة حلب من أجل التقدم أكثر على مسار التسوية السياسية».

في هذه الظروف تبدو المناورة التركية بالحديث عن احتمالات التدخل البري مقلقة لموسكو في شكل جدي، وهذا سبب تحرك روسيا القوي في مجلس الأمن وغيره.

والأمر لا يقتصر على تحليل مفاده أن أنقرة لن تكون قادرة على التحرك البري من دون غطاء أميركي، إذ يرى الخبير وهو مطلع جيداً على آلية اتخاذ القرار في الكرملين، أن روسيا «تدرك تماماً أننا نعيش حالياً في عالم جديد، لا يشبه الوضع الذي كان قائماً خلال عقود مضت، والمعادلات التي كانت قائمة في القرن العشرين انهارت لذلك فإن تركيا على رغم إصرارها على الحصول على ضوء أخضر أميركي لتحركاتها لكنها قادرة على التمرد على واشنطن وذلك برز في أكثر من مفصل خلال السنوات الماضية، وهي تميل لتبني سياسات أكثر استقلالاً شيئاً فشيئاً عن واشنطن».

في هذه الظروف من شأن «مغامرة تركية» وربما مع أطراف إقليمية أخرى أن تقلب الطاولة وتفتح على مخاطر جدية باندلاع مواجهة إقليمية واسعة أو على الأقل حرب دولية بالوكالة.

وانطلاقاً من الفكرة ذاتها يستبعد الخبراء الروس الفكرة التي يصر عليها محللون غربيون وعرب أحياناً، ومفادها أن الشرق الأوسط وانطلاقاً من الأزمة السورية يقف أمام «سايكس بيكو» جديد.

ويعود لوكيانوف للتأكيد على فكرة أن آليات القرن العشرين انتهت من دون رجعة، وأنه «لا توجد قوة حالياً قادرة على إجبار أطراف إقليمية على قبول تسويات معينة أو فرض خرائط جديدة، بما في ذلك على صعيد رسم ملامح لشرق أوسط جديدة.

وبين أسباب ذلك الانقسام العالمي الحاد، ظهور عنصر جديد مهم بدأ يلقي بتأثيراته بقوة، والمقصود «سكان المنطقة الذين باتوا أكثر فأكثر يرفعون شعارات حل مشكلاتهم بأيديهم ومن دون تدخل خارجي».

وعلى رغم الإقرار بإيجابية بروز دور شعوب المنطقة، لكن المعضلة تتركز في أن أدوات الحكم التي أفرزتها التطورات الأخيرة في المنطقة ليست قادرة على القيام بذلك، وأثبتت التجارب العديدة في المنطقة عجزها حتى الآن عن الإمساك بزمام المبادرة، ما دفع إلى طلب التدخل الخارجي في أكثر من حالة، ما يعني «الدوران في دائرة مغلقة من رفض التدخل والسعي للاستقواء به في كل مرة».

بهذا المدخل يرى الخبراء الروس أن إرهاصات قيام النظام الجديد في الشرق الأوسط ستكون دموية ولا يمكن أن تنتج من صفقات بين القوى الكبرى، بل من مخاض من «سلسلة من الحروب الإقليمية وسورية ليست نهاية المطاف».

غياب الاستراتيجية الاميركية أقليمياً

ويستبعد لوكيانوف في المقابل، النظرية السائدة لدى أوساط صنع القرار الروسي حول وقوف واشنطن وراء مشكلات المنطقة، موضحاً أن الإدارة الأميركية ليست قوية إلى هذه الدرجة ولديها مشكلات جدية في فهم التطورات المتسارعة على رغم أنها تحاول الإفادة منها، واستخدام أزمات المنطقة، لكن أدائها في جزء كبير منه يأتي على شكل ردود فعل على التطورات الجارية.

وفي ذلك إشارة واضحة إلى غياب الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، لكن الأوضح من ذلك غياب الاستراتيجيات عند كل القوى الدولية التي تتعامل حالياً مع أزمات المنطقة، بما في ذلك روسيا.

ويوضح الخبير الروسي فرقاً مهماً في آليات تعامل كل من واشنطن وموسكو مع الملف السوري وتداعياته الإقليمية، ففي حين فضلت إدارة الرئيس باراك أوباما توزيع رهاناتها على عدد من الأطراف في مسعى لتحقيق أوسع إفادة ممكنة من التطورات اللاحقة، فضلت موسكو انتهاج سياسة تركيز الرهان على طرف واحد وهو في هذه الحال نظام بشار الأسد. وعلى رغم الإقرار بأن في هذه العملية مخاطرة كبرى، لكن ثمة مكاسب حققتها موسكو حتى الآن وهي إظهار ثبات موقفها على خط مستقيم ما يعزز مواقعها أمام الحلفاء في مقابل زيادة التذمر من سياسات واشنطن التي «تقول شيئاً وتفعل أشياء أخرى». وعلى رغم أن روسيا «جاءت متأخرة جداً إلى سورية بعدما تدهور الموقف الداخلي والإقليمي كثيراً لكنها تحاول حالياً تعويض ما فاتها بسرعة» لكن موسكو ترى أن خسائرها الإقليمية بسبب دعم الأسد ليست كثيرة، وفي مقابل زيادة حال الاستياء بسبب مواقف واشنطن الغامضة والضعيفة فإن روسيا كسبت نقاطاً عدة على صعيد وضوح مواقفها.

ناهيك عن قناعة روسية بأن موسكو لن تخرج عسكرياً من المنطقة بعدما بذلت كل هذه الجهود للتمركز فيها.

وبمنطق الرهان ذاته على أن روسيا تخوض معركتها الكبرى و«إما أن تنتصر وتخرج بمكاسب واضحة إقليمياً ودولياً أو يقر الرئيس بوتين بفشل استراتيجيته»، اختار الكرملين المحافظة على نهجه وخوض المعركة المصيرية وهذا يفسر التصعيد القوي عسكرياً في الفترة الأخيرة، لأنه لا يمكن السماح بانهيار نظام بشار الأسد على رغم أنه ليس حليفاً مريحاً للروس و«يشطح» كثيراً.

وحول العلاقة المعقدة مع الأسد يرى الخبراء الروس، أن موسكو تدرك جيداً تركيبة النظام ومعضلة «الرمزية» التي اكتسبها الأسد وجعلت من رحيله نقطة انهيار فورية للنظام كله ما يعني أن تخسر رهانها دفعة واحدة.

ومن جانب آخر، يرى الخبراء أن أوراق الضغط الروسية على الأسد ليست قوية، وموسكو تدرك أنه قد يرفض إنذارات توجهها موسكو لذلك تحاول التعامل بحذر مع هذا الملف وتفضل توجيه رسائل غير مباشرة.

تقود تحليلات الخبراء الروس إلى استنتاج واحد بأن الرهان الروسي بات يقوم على الحل العسكري، وفرض أمر واقع كامل يحول طاولة المفاوضات إلى الوجهة المطلوبة، فلا مبدأ حكومة الوحدة الوطنية يمكن أن يصلح برأيهم، ولا يمكن السماح برحيل النظام في إطار معادلة جنيف القائمة على تأسيس هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات التنفيذية وهي معادلة دفنتها موسكو خلال مسار ميونيخ –جنيف. أيضاً تدرك موسكو أن أي رئيس مقبل في واشنطن ومهما كانت هويته الحزبية سيكون «أكثر تشدداً مع روسيا وسينتهج خطاً أكثر وضوحاً في الشرق الأوسط»، ما يعني أن الفرصة الروسية لم تعد مفتوحة زمنياً كثيراً.

+ -
.