«نزهة عند آخر الطريق» للأخوين ستروغاتسكي:التدخل العسكري ضرورة أخلاقية!

 

على رغم كل الثناء الذي أسبغه النقاد السوفيات في ذلك الحين على الفيلم الأخير الذي حققه أندريه تاركوفسكي في بلاده السوفياتية قبل أن ينفي نفسه إلى أوروبا، وهو رائعته «ستالكر»، لم ينج هذا الفيلم ولا صاحبه من «بطش» السلطات الستالينية. فالفيلم منع في البلد الذي أنتجه وصاحبه حرم من وطنه وأسرته. لكن المدهش، في المقابل، هو أن الرواية الأصلية التي اقتبس منها تاركوفسكي فيلمه لم تُمنع أبداً، بل اعتبرت، وحتى رسمياً، من عيون نتاجات أدب الخيال العلمي الروسي منذ صدورها للمرة الأولى في عام 1972. فمن أين أتت هذه المفارقة؟ من أسلوب تاركوفسكي بالتأكيد، لا سيما أسلوبه في الاستحواذ على نص كتبه غيره ومن ثم تحويله إلى عمل يحمل همومه والقضايا التي يريد أن يثيرها. من هنا، لم تكن الناقدة فيرا شيتوفا مخطئة حين قالت: «إن الفيلم لا يتتبع الكتاب حرفاً حرفاً وخطوة خطوة، إذ أن صانعي الفيلم لم يقتبسوا من القصة إلا خطاً واحداً، هو ما يسمى هنا بخطّ المنطقة». و «المنطقة» هو العنوان الذي يحمله أحد أقسام رواية الأخوين ستروغاتسكي «نزهة عند آخر الطريق»، حتى وإن كان كثر من الذين كتبوا عن فيلم تاركوفسكي ذكروا أنه مأخوذ من «رواية» عنوانها «المنطقة». ولأننا نعرف أن كثراً كتبوا عن فيلم تاركوفسكي «ستالكر» – ومعناه التقريبي: خارق القانون – قد يكون من المفيد هنا أن نعود إلى الرواية الأصلية نفسها، كعمل نال شعبية كبيرة لدى القراء الروس، ولا يزال، منذ ثلث قرن وأكثر، على عكس الفيلم الذي لم يحقق أي نجاح كبير في بلاده، حتى وإن كان له معجبون كبار منتشرون في شتى أنحاء العالم… إذ من المعروف أن «ستالكر» يعتبر من أجمل أفلام تاركوفسكي وأقواها… ولكن، علينا دائماً أن نؤكد أن الرواية غير الفيلم… وفي لحظات تبدو غير ذات علاقة معه على الإطلاق.

> في الكتاب الشخصية المحورية هي شخصية الـ «ستالكر»، أي خارق القانون، وهو شخص يتسلل عادة إلى مناطق محظورة باحثاً عن أشياء غريبة ومدهشة تتركها هناك «كائنات كونية» ومن ثم يبيع هذه الأشياء. بالتالي، فإن الـ «ستالكر» هذا هو مهرب نصاب يتعامل مع سماسرة محتالين يعرفهم جيداً ويعرفونه. وهو – بالتالي – لا علاقة له إطلاقاً بـ «الدليل» الذي يتولى في الفيلم، وفي شكل درامي للغاية، إيصال الناس إلى «المنطقة» المحرمة بدقة ولا يمكن مَن يدخلها إلا أن يتعرض إلى خطر الموت. فإن نجا منه، تعرض للاعتقال والتعذيب. من يتعامل معهم «ستالكر» الفيلم هم إذاً، أناس فقدوا مغزى الحياة وكل أمل، ويبدو لهم أن «المنطقة» تشكل نوعاً من أمل منشود. إذ هنا، إن تمكنوا من الوصول، يمكنهم أن يعبّروا عن أمنية ما… فتتحقق هذه الأمنية.

> واضح إذاً، أننا أمام عملين مختلفين. وهذا الاختلاف يفسر الفارق في رد فعل السلطات الرقابية بين نظرتها إلى الرواية ونظرتها إلى الفيلم. وهنا، على رغم هذا الفارق، قد يكون مفيداً أن نذكر أن الشهرة العالمية التي حققها «ستالكر» تاركوفسكي، كان من نتائجها أنها أطلقت شهرة مؤلفي الرواية الأصلية آركادي وبوريس ستروغاتسكي في العالم. ولكن، إذ اعتقدت بعض الأقلام أن الأخوين منشقان فكتبت حول هذا الموضوع، سرعان ما تبين أنهما – في الحقيقة – مدلّلا النظام الرسمي السوفياتي الذي يفاخر بهما، عالمياً على اعتبار أنهما الأبرز في مدرسة الأدب الخيالي – العلمي السوفياتي… وتحديداً انطلاقاً من البعد الوعظي الأخلاقي الذي ينتهي إليه معظم أعمالهما. وهذا جانب لن يلاحظه مشاهدو الفيلم، لأن تاركوفسكي أضفى على فيلمه بعداً ميتافيزيقياً – قد يبدو سياسياً من بعض نواحيه – فيما اقتصر الأمر لدى الأخوين الأديبين، على عمل ينتمي إلى أدب المغامرات وينتهي في شكل إيجابي، أي على إيقاع أخلاقي لا شك فيه. والحقيقة أن الأخوين ستروغاتسكي ساهما، ليس فقط في رواياتهما، بل كذلك في آرائهما وتنظيراتهما، في استجلاب الرضى الرسمي عليهما وعلى أدبهما. إذ إنهما عرّفا البطل دائماً بأنه يجب أن يكون «شخصاً فاعلاً اجتماعياً، إنساني النزعة ومسلحاً أيديولوجياً، يعرف كيف يرتكز على المجتمع الذي تحدر منه، وكيف يتحرك بالتناسب مع المثل العليا لهذا المجتمع». أما الأفق الأيديولوجي لأدبهما فحدداه بأنه «مناهضة النزعة العسكرية ومناهضة الفاشية ورفض الذهنية البورجوازية الصغيرة»، أما الدور الذي يعزوانه إلى الخيال – العلمي في العالم الحديث فهو «أن يعكس من طريق الصورة مشكلات زمننا الإجمالية، زمن الصراعات الأيديولوجية الحادة، والتغيرات الاجتماعية التي لا رادّ عنها، والثورة العلمية والتقنية التي يعيشها العالم».

> ونحن إذا قرأنا «نزهة عند آخر الطريق» من دون أن نضع في أذهاننا فيلم «ستالكر» فسنجدنا حقاً، وفي عمق أعماق الرواية أمام هذه الأبعاد. وكأن الكاتبين يترجمان آراءهما هذه أدبياً. وإذا كانت «نزهة عند آخر الطريق» قد اشتهرت في روسيا أولاً، ثم خارجها بفضل «ستالكر»، فإن اسم الأخوين كان معروفاً منذ عام 1959، حين سارا على خطى رائد أدب الخيال العلمي السوفياتي إيفان إفرموف، ليصدرا أول عملين لهما وهما «بلد الغيوم القرمزية» و «من الخارج». ولقد كان النجاح، إنما المحدود، حليف هذين العملين كما حليف أعمال عدة أخرى لهما صدرت تباعاً. لكن الشهرة الفائقة في بلادهما، لم تصل إليهما إلا في عام 1970، حين صرح رائد الفضاء السوفياتي جيورغي غرتشكو، بأنه لقراءاته في الفضاء اصطحب معه بضعة أجزاء من أعمال للأخوين ستروغاتسكي. فهل علينا أن ندهش إن نحن عرفنا أن الأخوين أصدرا خلال الأعوام القليلة التالية لصدور ذلك التصريح حوالى عشرين رواية ومجموعة قصصية؟

> لقد أصدر الكاتبان بعد ذلك أعمالاً كثيرة. ومع هذا تظل رواية «نزهة عند آخر الطريق» الأشهر والأقوى بين كل ما كتباه، وذلك لأن سمات بطل هذه الرواية تختلف اختلافاً بيّناً عن سمات أبطال الروايات الأخرى. صحيح أن نهاية «ستالكر»، الرواية، نهاية إيجابية وأخلاقية – وعظية، لكن هذا لا يأتي إلا بفعل تبدل أساسي يطاول شخصية البطل المهرب. ومثل هذا التغيير كان نادراً لدى أبطاله، حتى وإن كان معظمهم يعيش على الدوام حيرة قصوى وأسئلة لا تنتهي. إن هؤلاء الأبطال يريدون أن يغيروا، لا أن يتغيروا… وهم يغيرون دائماً نحو الأفضل. أو هذا على الأقل، ما تقترحه ضروب حيرتهم وأسئلتهم، كما يحدث لبطل «إنه لمن الصعب أن يكون الكائن إلهاً» (1964) فهنا يدور الأمر حول ضرورة – أو عدم ضرورة – التدخل في حضارة أخرى ولو لتقويم اعوجاجها: هل يجب أو لا يجب التدخل في مسار مجتمع يهيمن عليه عسكري مجنون يقوده نحو قومية – اشتراكية تنتمي إلى العصور الوسطى؟ إن الجواب الذي تأتي به الرواية هو: نعم… إن التدخل واجب. وعلينا هنا، أن نلاحظ أن السلطات الأدبية السوفياتية تعمدت أن تصدر طبعات، بمئات الألوف من النسخ من هذا الكتاب، عشية التدخل في تشيكوسلوفاكيا ثم في بولندا وفي أفغانستان. ترى أفلا يمكن هذه الواقعة الأخيرة أن تدفعنا إلى تفكير ما في تاريخية أعمال الأخوين ستروغاتسكي، وتزامن صدورها مع أحداث كبرى في تاريخ الاتحاد السوفياتي؟ وربما في تاريخ مناطق أخرى من العالم أيضاً…؟

> إنه أمر مغر بالتأكيد، طالما أننا نعرف أن أدب الأخوين ستروغاتسكي كان مدللاً في روسيا السوفياتية. من هنا، يبقى السؤال مشروعاً وحاداً عما دفع أندريه تاركوفسكي، الذي كان في ذلك الحين – النصف الثاني من سبعينات القرن العشرين – يعيش أزمة صراع حاد مع سلطات بلاده، إلى استخدام واحدة من أكثر روايات الأخوين امتثالية وشهرة، ليقتبس منها واحداً من أكثر أفلامه تمرداً على السلطات السوفياتية وعلى نظرتها إلى مفاهيم مثل البطولة والميتافيزيقا والخير والدين. ذلك أن «ستالكر» تاركوفسكي يحمل هذا كله وبقوة وعنف. مهما يكن، طرح ناقد ذات يوم، إذ قارن بين الفيلم والرواية، سؤالاً أساسياً حول ما كان يمكن أدب الأخوين ستروغاتسكي، أن يكونه في مناخ من الحرية الفكرية التامة… وفي يقيننا – أو لحد علمنا على الأقل – لم يأتِ أي جواب على هذا السؤال، منذ عقدين على الأقل من السنين… أي خلال هذا الزمن الذي نعرف أن الحرية المطلقة سائدة فيه… لكننا نعرف أنها حرية من النوع الذي يصعب على أدباء مثل الأخوين ستروغاتسكي أن يعرفا ماذا يفعلان به.

+ -
.