هل تملك الأرض نظام إعادة توازن للمناخ؟

لم يعد هناك شك لدى العلماء في أن الأرض تعيش على وقع احترار غير مسبوق، وقد أصبحت مسؤولية الإنسان في ذلك محل اتفاق واسع بينهم، فجلهم إن لم يكن كلهم يرون أن النشاط البشري الملوث للجو من خلال نفث كميات هامة من غازات الدفيئة يلعب دورا هاما في تأجيج ظاهرة الاحترار العالمي.

لكن السؤال الذي لم يحسم بعد والذي ستحدد الإجابة عنه مستقبل الحياة على الأرض هو هل تملك الأرض نظاما ذاتيا طبيعيا لإعادة التوازن للمناخ؟ وإن وجد فما مدى قدرته على مواجهة هذا الاحترار غير المسبوق في سرعة تفاقمه؟ قد يكون ذلك هو الأمل الوحيد لتوقف ظاهرة الاحترار العالمي يوما ما حتى وإن كان ذلك اليوم بعيدا.

ولا يختلف اثنان في أهمية الدور الذي تلعبه المحيطات والغلاف النباتي في الحد من ظاهرة الاحتباس الحراري من خلال امتصاص كميات هائلة من غاز ثاني أوكسيد الكربون من الجو واستيعاب نسبة هامة من الحرارة الزائدة.

لكن هذين العنصرين الطبيعيين بدآ بدورهما يعانيان من تأثيرات الاحتباس الحراري بتوسع مناطق الجفاف ونقص الأمطار من ناحية وتدهور حالة التيارات المحيطة المعدلة للمناخ بسبب ذوبان الجليد وتغير حموضة المياه من ناحية أخرى. وهذا يعني أن أنظمة التعديل في المستوى الأول بلغت أقصاها وأنها مهددة بالانهيار خلال العقود القادمة.

لذلك يحاول العلماء البحث عن وجود أنظمة تعديل يمكنها إنقاذ الأرض من كارثة مناخية عند انخرام التوازن المناخي بسبب الاحتباس الحراري وارتفاع مستوى البحار والمحيطات. وتم وضع أكثر من نظرية لوصف كيفية عمل هذه الأنظمة سنستعرض في هذا المقال اثنتين منها.

دورة الكربون
أولى هذه النظريات هي تلك التي وضعها عالم الكيمياء الحيوية روبرت برنر حول دورة الكربون وأكد فيها أن ارتفاع حرارة الجو وزيادة تركيز غاز ثاني أوكسيد الكربون فيه يؤديان إلى زيادة وتيرة تآكل الصخور خاصة سيليكات الكالسيوم والمغنيزيوم وتقوم الدورة المائية بحمل أيونات الكالسيوم والمغنيزيوم إلى المحيطات حيث تتفاعل مع الغاز الكربوني لتكوين كربونات الكالسيوم (صخور جيرية) وكربونات المغنيزيوم (الدولوميت). ويعتقد أن حجم هذه التفاعلات هائل جدا بحيث يمكن الحديث عن أنها جزء من نظام تعديل مناخي على الأرض.

هذه النظرية تم إثباتها في بداية العام الجاري في مقال صدر في مجلة نيتشر جيوساينس حول نتائج تحليل رواسب تعود إلى 56 مليون عام في أعماق المحيط الأطلسي قبالة السواحل الشرقية لجزيرة نيوفاوندلاند الكندية. في تلك الحقبة شهدت الأرض ظاهرة الاحتباس الحراري مثل التي نعيش اليوم بسبب اضطراب مناخي يصفه العلماء بكونه الأسرع والأكثر أهمية خلال حقبة الحياة الحديثة “سينوزويك”.

وانبعثت في الجو كمية هائلة من الكربون قد تضاهي تلك الموجودة اليوم في حقول النفط والغاز ومناجم الفحم الحجري دفعت باتجاه رفع درجة الحرارة على الأرض بحوالي ست درجات وزيادة حموضة المحيطات وارتفع مستواها في فترة لم تتجاوز 20 ألف سنة. وقد استحقت غرينلاند اسمها كبلد أخضر في ذلك الوقت الذي شهد ظهور أولى سلالات الحيتان الخيول والقردة.

وتبين النتائج أن طبقة هامة من الكربونات تكونت إثر تلك الحقبة ولم يكن لها أثر قبل ذلك وهو ما لا يمكن تفسيره إلا إذا سلمنا بوجود منظم طبيعي للمناخ على الأرض مكن من امتصاص غاز ثاني أوكسيد الكربون من الجو واستعادة المناخ لتوازنه بعد انخفاض الحرارة إلى معدلها الطبيعي.

من المؤكد أن ارتفاع درجة الحرارة في ذلك الوقت قد حدث على فترة زمنية طويلة مقارنة بالارتفاع الحالي، لكن العلماء استطاعوا أن يستخلصوا الكثير من المعلومات التي تفيد في فهم ما يجري اليوم وما قد يحدث في المستقبل عندما تبدأ هذه الآليات التعديلية للمناخ في العمل.

نظام التساقطات
النظرية الثانية التي يطرحها العلماء ويرون أنها تمثل نظاما تعديليا بإمكانه إعادة التوازن للمناخ في المستقبل هي نظام التساقطات. ويدافع عن هذه الفكرة بعض علماء المناخ وعلى رأسهم الأميركي روي سبنسر من جامعة ألاباما. ويذكر أصحابها بأن ظاهرة الدفيئة أو البيت الزجاجي هي ظاهرة طبيعية ولولاها ما كان للحياة أن تتطور كما هي عليه الآن.

وتحفظ هذه الفكرة معدل درجة الحرارة على الأرض في مستوى 15 درجة مئوية وفي غيابه سيهوي هذا المتوسط إلى 18 درجة تحت الصفر. وبخار الماء في الهواء والغيوم هو المسبب لهذه الظاهرة بدرجة أولى ويساهم فيها بنسبة 50% قبل غاز ثاني أوكسيد الكربون الذي لا تزيد مساهمته عن 25%.

لكن زيادة الاحتباس الحراري بسبب ارتفاع نسبة تركيز غاز ثاني أوكسيد الكربون في الجو ستؤثر كذلك في نظام التساقطات من خلال تغير نسبة الرطوبة وتشكل الغيوم.
والاختلاف بين العلماء هو حول كيفية تأثير هذا التغير في المناخ هل سيزيد من ظاهرة الاحتباس الحراري ليعتبر بذلك “تغذية مرتدة إيجابية” أم سيعمل على الحد منها ليكون “تغذية مرتدة سلبية” لهذه الظاهرة؟

كل نماذج المحاكاة -تقريبا- تعتبر التغير في نظام التساقطات من الصنف الأول أي أنه سيزيد من حدة الاحترار وهو ما يعتبره سبنسر خطأ فادحا أدى إلى وضع سيناريوهات مستقبلية غير واقعية للتغيرات المناخية.

في المقابل، يرى عالم المناخ الأميركي أن نظام التساقطات سيعمل كنظام معدل يعيد التوازن للمناخ من خلال كبح ظاهرة الاحتباس الحراري. ويستشهد العالم الأميركي بما يحدث في المناطق الاستوائية حيث يؤدي دفء الجو الاستوائي إلى خفض كميات السحب المرتفعة مما يسمح للأشعة تحت الحمراء بالإفلات من الغلاف الجوي نحو الفضاء الخارجي. ويعتقد سبنسر أن مراجعة النماذج المناخية بإدراج هذا المعطى الجديد سيخفض تقديرات الاحتباس الحراري في المستقبل.

قد لا ترقى هذه النظريات وغيرها إلى المستوى الذي تبدد فيه القلق البشري على مستقبل الإنسان على سطح الأرض، فالنظام التعديلي الأول قد يأخذ وقتا طويلا لإعادة التوازن للمناخ تكون فيه أغلب الكائنات الحية قد انقرضت. أما الثاني فهو في حاجة إلى إثبات خاصة أن تسارع ظاهرة الاحتباس الحراري يبدو مشابها لما تنبأت به بعض نماذج المحاكاة التي ترى أن نظام التساقطات يزيد من حدة الاحترار العالمي.

+ -
.