هل من أفق للحل السياسي في سورية؟

أربعة حوادث جديدة بدأت تفرض نفسها على المشهد السوري الدامي، وتبدو كأنها حوافز تتضافر تدريجياً، لفتح نافذة في جدار الاستعصاء القائم وتحريك عجلة التفاوض والمعالجة السياسية.

يتعلق الحدث الأول باتفاق الإطار لطي الملف النووي الذي أبرم بين إيران والدول الست وفي مقدمها أميركا، والذي سيقيد، على عكس ما يعتقد البعض، يد طهران العسكرية في المنطقة، ربطاً بتراجع حاجتها للاعتماد على أوراق نفوذ إقليمية، باتت باهظة ومكلفة، كي تعزز موقعها التفاوضي، وتالياً تنامي حاجتها للانفتاح على الأسرة الدولية وفك الحصار المفروض عليها للخلاص من حالة الاستنزاف المزمنة والاهتمام بالوضع الداخلي وأزماته الاجتماعية والاقتصادية المتفاقمة، وخير دليل ردة الفعل الشعبي الاحتفالية على ما حصل، ونضيف أن هذا الاتفاق ما كان لينجح لولا تنازل طهران عملياً وخضوعها للنهج التسووي والحلول الوسط ولمبدأ التعاون والتشارك، ما يقود إلى تعزيز مراكز القوى السياسية والدينية التي تميل إلى المعالجة السياسية على حساب دور الحرس الثوري ومراكز القوى التي دأبت على نهج تصدير الثورة واستثمار البعد المذهبي لمد نفوذها في المنطقة، خاصة وقد تلقت هذه الأخيرة ضربات مؤلمة في الجنوب السوري، ثم في اليمن ناهيكم عن مثال تكريت في العراق.

الحدث الثاني تمثله عاصفة الحزم وتداعياتها في المنطقة، والتي إن أظهرت قيمة الحضور العربي وما يمتلكه من قوى كامنة أعادت رسم التوازنات الإقليمية لمواجهة تفرد إيران في استثمار المتغيرات المجتمعية التي أحدثتها ثورات الربيع العربي، فإنها حاصرت حلفاء طهران في غير مكان وعززت موضوعياً من وزن مناهضيهم، الأمر الذي يضعف جدوى التسعير المذهبي ومنطق العنف والغلبة اللذين وسما صراعات المنطقة لسنوات ويشجع مسار التوافقات والتفاهمات السياسية، خاصة إن تمكنت عاصفة الحزم من تحقيق هدفها في إعادة القوى اليمنية المتمردة إلى رشدها ودفع مختلف الأطراف بمن فيهم الحوثيون إلى التفاوض وبناء حلول سياسية تؤكد على العيش المشترك في إطار دولة تعددية تضمن حقوق الجميع ومصالحهم.

بينما يرتبط الحدث الثالث بالدور السياسي الذي بدأ يتطلبه الحضور الصريح لتحالف عسكري دولي ضد تنظيم داعش في سورية والعراق، ما قد يفضي إلى تحرر المواقف الغربية وتحديداً الأميركية من سلبيتها وترددها ويحثها على التدخل للتأثير سياسياً في مجريات الصراع السوري كي تضمن نتائج مجزية بأقل ثمن، فكيف الحال مع إلحاح دول الجوار على أولوية إعادة الأمن والاستقرار إلى المنطقة، وقد تصاعدت خشيتها من ما تخلفه بؤرة التوتر السورية من استقطابات حادة واحتقانات مذهبية وعرقية، ومن الأضرار الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن الازدياد المتواتر لأعداد اللاجئين السوريين في أراضيها.

أما الحدث الرابع فيتعلق بالنتائج التي أسفرت عنها المعارك الأخيرة بين قوات النظام وحلفائه، وبين جماعات المعارضة المسلحة على اختلاف مسمياتها، ونجاح هذه الأخيرة في الاستيلاء على مناطق مهمة ونوعية، كمدينة إدلب شمالاً، وبصرى الشام ومعبر نصيب جنوباً، ثم في ريف حماة الشرقي والبادية وسط البلاد، والقصد أن الفشل المتكرر للخيار الأمني والعسكري في تحسين مواقع النظام وتمكينه من انتزاع زمام المبادرة ومحاصرة قوى المعارضة المسلحة في بقع صغيرة كما كان يأمل، يجعله موضوعياً أكثر استعداداً للخضوع لمسار الحوار والحلول السياسية، بدليل قبوله بمبدأ التفاوض ومشاركته في اجتماعات جنيف وموسكو، حتى وإن كان الغرض المضمر من وراء ذلك هو ربح الوقت لالتقاط الأنفاس واستمالة بعض أطراف المعارضة، وما يزيد هذا الاستعداد وضوحاً قناعة باتت تتملك الجميع بعجز أي طرف عن تحقيق الحسم، وبأن ما يشهده الصراع الدامي من عمليات كر وفر هي عرضة للتبدل والانتكاس وأشبه بمعارك تدمير واستنزاف متبادل لن تفضي إلى انتصار عسكري نوعي أو توازنات مستقرة. ويعزز ما سبق تدهور الأوضاع الاقتصادية والخدمية وشيوع رغبة عارمة وضاغطة لدى الناس بضرورة الخلاص من هذا التردي المريع في شروط حياتهم وعيشهم وأمنهم، ربطاً بتنامي استعداد المعارضة السياسية للتوصل إلى حلول تخفف من دوامة العنف وتحفظ وحدة البلاد ومؤسسات الدولة.

صحيح أن أهم أطراف المعارضة السورية تنادي بالحل السياسي للصراع الدامي، وصحيح أنها استجابت للمطلب العربي بضرورة الحوار لتوحيد صفوفها وخطابها، وتحمست، من أجل ذلك، للمشاركة في اجتماع القاهرة المرتقب أواخر الشهر الجاري، لكن ذلك لن يثمر تبدلاً في موقعها ودورها، إن لم ترتق بمسؤوليتها الوطنية وتتجاوز الحسابات الأنانية والضيقة والصراعات الحزبية والفئوية، وإن لم تنجح في تمثل دروس الماضي والوقوف نقدياً من نهج الترويج لطلب السلاح وتشجيع الحسم العسكري، وتالياً نشر ثقافة تدين لغة العنف والإكراه وتنبذ مظاهر التباهي بمنطق المكاسرة والغلبة، والأهم إطلاق المبادرات لتثقيل الوجه السياسي والمدني لقوى التغيير الديموقراطي.

والحال هذه، هل نستطيع القول أن الزمن السوري لن يستمر عبثياً ودموياً وبات محكوماً بتسوية سياسية، وأن ثمة احتمال يتقدم في أن تحاصر الأحداث الحاصلة اليوم أهم الأطراف المتحاربة وتجبرها على ترك ميدان العنف والسعي لمعالجات من طراز مختلف تخمد بؤرة التوتر وتوقف تفاقم هذه المأساة الإنسانية، أم لا تزال هناك صعوبة في التوفيق بين مصالح متباينة تمثلها قوى عربية ودولية وفئات من النظام والمعارضة زادها تبايناً ما كرسه طول أمد الصراع والعنف المفرط من نتائج مؤلمة يصعب تجاوزها بسهولة؟! وبعبارة أخرى، هل سيكتب التاريخ قصة عجز السوريين أخلاقياً ووطنياً عن مقاربة حلول تخفف آلامهم وتسعى للحفاظ على وحدة وطنهم وتعايشهم، أم ثمة بعد هذا الخراب ما يشجع على تبلور قوى ورؤى سياسية تتطلع، بعيداً عن أوهام الانتصارات والحسم، نحو التشارك في بناء مستقبل جديد تحدوه دولة ديموقراطية تعددية ومجتمع مواطنة لا مكان فيه للتمييز أو لحقد وانتقام؟!.

+ -
.