72 ساعة تفصلنا عن “الامتحان” – مجيد قضماني

مجيد قضماني

ستة آلاف شخص، أو ربما أقل، “قُطّعت أوصالهم مع ذويهم وأبناء شعبهم”، فوجدوا أنفسهم، في “لحظة خيانة”، وبين ليلة وضحاها، بمفردهم في مواجهة “مصير مجهول”..، في مواجهة “دولة منتصرة، قادرة ومقتدرة”، اقتحمت “قرويتهم” وفي جعبتها “مصائد ومكائد” استعدت لها وأعدتها “لهم” قبل سنوات وسنوات من “قدومها” إليهم.

ستة آلاف شخص في قرى “مغمورة” على سفوح “مرمية” لجبل الشيخ.. في بيوت “خالية تمامًا” أو تكاد، من “خدمات ورفاهيات” لا يمكن لأكثريتنا المطلقة، اليوم، أن تتخيل “الحياة” خارج “صخبها وضجيجها”.

ستة آلاف شخص وجدوا أنفسهم في “حضرة” احتلال سحق في حرب خاطفة مُهينة جيوش ثلاث دولة عربية معًا هي مصر وسورية والأردن، وتمتد، كذلك، إلى كامل الضفة والقطاع الفلسطينيين وسيناء المصرية..!

“مكائد ومصائد” كانت تبغى (وما تزال) جعل هذه “القلة القليلة” بتعدادها ولكن “الثمينة جدا” بوزنها المعنوي، مطيًة ووسيلًة لتمرير “طموحاتها اللصوصية” في بلاد الشام عمومًا، وفي “شرعنة” سطوتها على هذه القطعة الجميلة جدا بثرواتها وموقعها من الهضبة السورية.

تلك “الظروف الموضوعية” التي أحاطت بأهالينا في تلك الأوقات العصيبة، كانت في غاية “المثالية” من حيث توفرها على “ذرائع وحجج”، أكثر من كافية، كي تختار هذه “القلة القليلة” أن تسلم بـ”الأمر الواقع” وترضى الانسياق مع تلك المخططات الهدّامة; فلا أحد عادلا ومُنصفًا من حقه أن يُسألهم “كيف رضيتم، يا ستة آلاف شخص، بأن تجعلكم إسرائيل مطية ووسيلة..! لا أحد عادلا ومنصفًا كان يملك في ذلك الظرف حق أن يُعيب عليهم “انكسارهم” أمام “دولة” أذلت، للتو، جيوش ثلاث دول عربية وفي أقل من ستة أيام.

ولكن، ليس هذا ما حدث..!

فلم يكد يمر “أسبوع الاحتلال” حتى نهض “حراك شبابي” يبحث عن جواب لسؤال “ما  العمل؟ ما السبيل إلى حماية أنفسنا من استدراجنا إلى “الخطيئة”..؟! وفي منزل “أحدهم” اجتمعوا و”أقسموا اليمين” على أن يبقوا أوفياء لـ “هويتهم السورية” مهما طال عمر الاحتلال، ومهما تعاظم الإغراء والرشاوى والخدمات أو التهديد والوعيد والقصاص.

لقد “أقسموا” على حماية أنفسهم ومجتمعهم من أن يتحول ويتحولوا إلى مطية وأداة.. لقد أدركوا بواقعية “الحكمة المتوارثة” أن مهمة “تحرير الأرض” لا تقع على عاتقهم، وأن دورهم هو “فك الطوق” عن أعناقهم وتطويق مخططات تريد جعلهم “كبش فداء آخر” يُسمسرُ به على “موائد اللئام”..!

و”باقي التفاصيل”، مع أهميتها البالغة، سردها ليس مقامه هكذا مقال، كما وأنها معروفة، على الأقل بمحطاتها الرئيسية، لأكثرية أبناء مجتمعنا، وكيف تعرض أهالينا للاعتقال والتضييق والتهديد والفصل من العمل والإقامات الجبرية والحصار وصولا إلى “الرصاص والنار” في فترة الإضراب الكبير.. إلخ إلخ من “الضريبة” التي قد يدفعها أي شخص يختار أن يرمي “لا” في وجه التعدي والظلم، والاحتلال الإسرائيلي في الجولان مثله مثل أي احتلال آخر في التاريخ الإنساني لا يُصنف خارج دائرة “التعدي والظلم”، ولا يهم هنا إن كانت “الأغلال والقيود” من ذهب أو حديد.

فالإنسان الحر لا يرضى من حيث المبدأ الأخلاقي أن يصفق مُرحبًا بـ “الحرمنة” حتى لو كان منفذُها “أنيقًا”..! الحر الحقيقي لا يفرّق من حيث المبدأ بين حرمنة وحرمنة ولا يُبرر للص بكون “المُعتدى عليه” كان مهملا لأملاكه أو فشل في حمايتها، وهي الدباجة المخزية التي نسمعها من “بعضنا”، وللأسف الشديد، لتبرير انحيازهم لموقف “غير أخلاقي” بالمعنى “التاريخي” لحقوق الشعوب.

شيفرة النجاح..!

خمسون عامًا بدءًا من 67 مرورا بـ 82 والإضراب الكبير وصولا إلى يومنا الحالي مليئة بـ “أجوبة” على سؤال كيف نجح أهالنُا في حماية “الهوية” وتجنب الانزلاق إلى “سيناريو” دروز فلسطين.

ومن يبحث سيرى، أو على الأقل هذا أراهُ وقد أكون مخطئا، أن “سر” النجاح.. “شيفرة” النجاح كانت في التالي: كلما يتم حشر الناس بين خياري “الهوية والإنتماء” أو “المعيشة والخدمات”، تنجح الأكثرية بتجاوز الامتحان عبر “أداء وسطي” يقوم على “الدمج” بين الأمرين معًا بحيث لا تُهان “سوريتنا” وفي ذات الوقت لا تُداس مصالح الناس المعيشية والخدماتية.

هذه “البراغماتية” في التفكير و”الوسطية” في الإداء هي في جوهرها “ثورية للغاية” كونها ترفض “الرضوخ”، ولكنها ارتقائية.. تدريجية.. وليس عبر “الكسر العنيف”..!

هي “وسطية” بمعنى أنها “واقعية وعملية” وليس “انتهازية ومصلحجية”، كما يحاول البعض تأويلها. الفيلسوف الفرنسي ديكارت يقول إن “معيار الحقيقة يكمن في بداهتها..بمدى انسجامها المنطقي ومطابقتها لقواعد العقل ومبادئه”. فماذا بوسع “قلة قليلة”، (للتذكر نحن عدة بنايات سكنية في أي مدينة)، أن تفعل “أكثر” مما فعلته حتى الآن في صون هويتها السورية وبنفس الوقت نجحت في أن لا تجعله، أي “الهوية”، عائقًا أمام المضي قُدمًا في تحصيل المكاسب المعيشية..!

“الوسطية” في الأداء والذهنية…!

هذه هي “الشيفرة”.. هذا هو “السر”، كما يبدو لي على الأقل، وراء هذا النجاح اللافت الذي حققه مجتمعنا، بالعموم، وساعده على تجنب الوقوع في شباك ومكائد ومصائد “الخطيئة” الوطنية، وفي ذات الوقت سمح له بمواصلة تحصيل المزيد والمزيد من المكاسب في “معركة وجودية أخرى” مع الاحتلال وهي معركة التمسك بالأرض والحق بالانتفاع منها والارتقاء والتطور والتقدم على كافة الأصعدة، العمرانية والتعليمية والاقتصادية.. إلخ إلخ من ركائز ما يوصف على أنه “المجتمع المدني”.

ثلاثاء أبيض أو أسود

وها هي الظروف قد حشرت مجتمعنا من جديد أمام اختبار. فهل ستنجح الأكثرية، هذه المرة أيضًا، في عدم جعل “الثلاثاء القادم” يخلخلُ أركان شيفرة النجاح تلك..؟ هل ستنجح في أن لا تسمح بجعله “يومًا أسودًا” في “الرزنامة الجولانية” الخالية حتى الآن من أيام “غير بيضاء”..؟ أسيتمكن “الثلاثاء” من حفر “خانته السوداء” في “سيرتنا الجماعية” أم سوف يعبر “متوشحًا بالأبيض” كما عبرت أيام “مفصلية” سابقة..؟!

الجواب لدى كل فرد منّا وكيف تصرف وسيتصرف.. علمًا أن “معطيات اليوم” تسمح بالقول، وبثقة عالية جدًا، إن الأكثرية المطلقة ذاهبة إلى رفض هذه الانتخابات ومقاطعتها، وأنها لا تزال “ترتوي” من ينبوع “الحكمة المتوارثة”، ولا تزال تتقن “فن” التمسك بحقوقنا في نيل “الخدمات المعيشية” ولكن دون المساس والتفريط بـ”هويتنا” والحاق “ضرر قاتل” بـخصوصيتنا كسوريين محتلين.

إن عبور مجتمعنا لهذا الاختبار “الجديد القديم” بسلام، سوف يزيد من تماسكه وهيبته، وسوف يحصن أقوى وأقوى “سر نجاته” طوال السنوات الماضية.

إن انصرام “الثلاثاء القادم” وجعبة الإعلام والصحافيين “خالية” من صور المشاركة في الانتخابات أمر في غاية الأهمية وسيشكل “رسالة حازمة” لكافة الجهات “المعنية” بأن “الأكثرية” في المجتمع الجولاني لا تزال قادرة على قول “لا” في وجه كل “مغرض ومتطرف” يحاول نسف “شيفرة” النجاح هذه والاستقرار و”التعايش الطيب” بين أبناء “الأسرة الجولانية” الواحدة.

وبالمناسبة، يستطيع من تبقى من مترشحين قلائل “المساهمة على طريقتهم” في تمتين هذه “الشيفرة” بأن يعلنوا، هم أيضًا، انسحابهم الجماعي من الانتخابات كما حدث في مسعدة وقدمت لنا جميعا نموذجًا يحتذى.

ولعله من المفيد أيضًا التذكير هنا بما جاء في البيان الأخير الصادر عن “الحراك الشعبي” من أن “كافة الفئات المناهضة للانتخابات تنظر بعين المساواة وترحب بأي واحد من المرشحين سيتم تعيينه لشغل منصب رئاسة السلطة المحلية، في حال قرروا الانسحاب من عملية الانتخاب”.

+ -
.