الفيلسوف باروخ سبينوزا
سبينوزا: فيلسوف البهجة والسعادة
حسونة المصباحي

لكلّ عظيم يوم يدخل فيه التاريخ من بابه الواسع. ويوم الفيلسوف باروخ سبينوزا، كان 27 يوليو/ تموز عام 1656. ففى ذلك اليوم قرأ الحاخام اليهودى "مورتيرا"، أمام جمع غفير من المصلّين النص الذى تضمن "الحِرْم"، وهو أقسى عقاب يُتّخذ بشأن الخارجين عن الدين، والمعنيّ بالأمر هنا هو سبينوزا، وفيه جاء ما يلي:
"ليكن ملعونا فى السماء، وعلى الأرض، من فم الله كلى القدرات". وبذلك حكم على سبينوزا بـ"الموت الاجتماعي". ذلك أن النص المذكور يطلب من كل المنتسبين إلى الجالية اليهودية فى أمستردام حيث كان يقيم الفيلسوف، عدم الاقتراب منه، أو التحدث إليه، أو مراسلته، أو الإقامة معه تحت سقف واحد، أو قراءة ما ينشر أو يكتب. ولكن ما سبب هذا العقاب القاسي؟
الوثائق التاريخية تقول إن الجالية اليهودية اتهمت سبينوزا بإنكار خلود الروح، وبجعل الله والطبيعة فى مرتبة واحدة، وبالسخرية من الصلوات ومن كل أشكال التعبّد المنصوص عليها فى التوراة. وقد ردّ سبينوزا على جميع هذه التهم الخطيرة قائلا "لا أحد بإمكانه أن يجبرنى على فعل شيء لا تستسيغه نفسي"، مضيفا "مبتهجا، وسعيدا أدخل الطريق الذى انفتح أمامي".
وقد ولد باروخ سبينوزا فى 24 نوفمبر/ تشرين الثانى عام 1632، وتوفّى فى لاهاى فى 20 شباط/ فبراير 1677. وقد عاش حياة هادئة، شبه خالية من الأحداث المثيرة. وهو ينتسب إلى أسرة يهودية كانت تعيش فى البرتغال قبل أن ترغمها الأوضاع الصعبة التى عاشتها، على الهجرة إلى هولندا وذلك عام 1592. وكانت أمستردام فى الوقت الذى عاش فيه سبينوزا، مدينة مفتوحة لكل المهاجرين الفارين من الاضطهادات الدينية أو السياسية. وكان الشعار المرفوع فيها "كل مواطن سيكون حرا فى أن يكون على دينه".
وفى صباه انكبّ سبينوزا على دراسة التوراة. وفيما بعد، أى فى فترة الشباب، قرأ بعمق مؤلفات بعض الفلاسفة من أمثال ابن عزرا الذى كان يعتقد بخلود المادة، وجرسونيدس الذى كان ينتقد المعجزات والنبوءات ويقدم سلفا العقل على الوحي، وكرساكاس الذى كان يعزو إلى الله الامتداد، ويلغى من الكون العلل الغائية، وابن سيمون المتأثر بفلسفة ابن رشد. وفى فترة الشباب أيضا، تردد سبينوزا على الأوساط المسيحية، وقرأ ديكارت.
وشيئا فشيئا، أصبح موضع رقابة وتقريع من قبل رؤساء الجالية اليهودية فى أمستردام.
وبعد طرده حاول رجل متعصب قتله، غير أنه "تحاشى الضربة فما أصابت منه سوى ثوبه". وقد ظل سبينوزا محتفظا بهذا الثوب المخروق طوال حياته.
وفى عام 1661، استقر فى بيت صغير جنوب أمستردام. وكان يكتب ويعمل فى غرفة ضيقة. وبعد ذلك انتقل إلى "فوربورغ" ثم إلى لاهاي. وكان يقضى أغلب أوقاته فى التأمل والقراءة والكتابة، زاهدا عن كل ملذات الحياة. ورغم أنه كان يميل إلى الوحدة، فإنه كان يتردد على الأوساط المسيحية المعروفة بانفتاحها الفكري، وبحبها للإصلاح، ودفاعها عن الفكر الحر.
وكان يشارك بحماس فى جميع المناقشات التى كانت تدور داخل هذه الأوساط. وشيئا فشيئا، كثر من حوله الأتباع والمريدون. وجميعهم كانوا مفتونين بأفكاره النورانية، وبصفاء فكره. وبعد أن أصدر مؤلفه الذى سيصبح شهيرا فيما بعد، أعنى بذلك "الأخلاق"، بات موضع تقدير وتبجيل من قبل الكثيرين. وبات اسمه على الألسن فى جميع أنحاء أوروبا. فقد رغب ملك فرنسا لويس السادس عشر فى أن يهديه أحد مؤلفاته. ودعته جامعة هايدلبارغ الألمانية للتدريس فى قسم الفلسفة غير أنه رفض العرض بلباقة.
كما زاره البعض من كبار المفكّرين والفلاسفة. وعندما نشر "الرسالة اللاهوتية - السياسية" قوبل مرة أخرى بالاستنكار والتقريع فى كامل أنحاء أوروبا. وعندما غزا الجيش الفرنسى هولندا عام 1672، تلقى سبينوزا دعوة لمقابلة الأمير دى كونديه، قائد قوات لويس الرابع عشر الذى كان يرغب فى فتح حوار مع الليبراليين الهولنديين، فقبلها وانطلق إلى معسكر الأمير عبر طرق غير مأمونة، غير أنه لم يوفّق فى مسعاه. وعندما عاد إلى لاهاى حيث كان يقيم، هاجمته، الغوغاء فى الشارع وكادت تسحله.
وفى نهاية حياته أصبح سبينوزا يعدّ مصلحا للفلسفة الجديدة، وللدين التقليدي. كما أصبح يعد سياسيا مقداما ومصلحا إذ أنه هاجم بشدة التعصب وعدم التسامح.